الأولمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الأولمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــب

للإبداع الأدبي الحقيقي بحثا عن متعة المغامرة
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 أفعى

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حمدي علي الدين
المدير
المدير
حمدي علي الدين


ذكر عدد الرسائل : 1252
تاريخ التسجيل : 15/04/2007

أفعى Empty
مُساهمةموضوع: أفعى   أفعى Icon_minitime9/6/2007, 06:34

الأفعى




قصة : وليم سارويان

وهو يجتاز المتنزه الواسع عابرا في شهر مايو ،رأى افعى صغيرة تنساب بين الحشائش وأوراق الشجر ، فشرع يتبعها حاملا في يده غصنا طويلا ، وقد لازمته غريزة خوف الانسان الأزلية من الزواحف،فكر في نفسه .. آه ، يارمز الغواية،ايتها الشيطان،وبدأ ملامستها بالغصن فأنكمشت الافعى تتلوى ألماً ،رفعت رأسها ، ثم أنقضت على الغصن،وانطلقت هاربة بين الاعشاب،لاحقها بسرعة وقد تملكه نوع من الهلع، كانت شديدة الذكاء،ذات جمال أخاذ ،لذا قرر متابعتها وقضاء بعض الوقت قربها عله يكتشف شيئا لم يكن يعرفه .
الافعى الصغيرة ، البنية اللون قادته الى داخل المتنزه عميقا ،فأخفتهما بعيداعن الانظار كثافة الشجر ، شعر بالذنب لأساءته التصرف بشأن قوانين الحديقة وهو يطاردها،فأستعد لأعطاء نفسه اعذارا او لمن سيكتشف فعلته ،انا احد طلبة قسم السلوك الاجتماعي او كلية الآداب،او يعتقد انه سيقول انه نحات يقوم بدراسة هيكليات الزواحف،على كل حال ،فانه يود ان يوجد له بعض الأسباب الواضحة لأنه لايريد ان يعترف بأنه يبتغي قتل تلك الافعى .
دائرا حول الزاحفة المقاتلة، قافزا بين حين وآخر لكي يحافظ على الوضع الذي بينه وبينها، حتى تمكن اخيرا من استثارتها ، مجبرا اياها على التوقف امامه، بعد ذلك جلس مقرفصا على عقبيه لكي يلقي عليها نظرة قريبة، قابضا عليها بواسطة الغصن، خائفا من ملامستها بيده ، ان لمس افعى كلمس شيء بالغ السرية في العقل الآدمي ، شيء غامض لايمكن كشفه او تحديده او اخراج محتواه الى النور ، هذا الشيء الأملس الناعم المنزلق ،المتميز بصمته الفظيع ، كان في البداية انسانا ،والآن تشكل على هذه الهيئة ،هنا حيث الافعى مازالت تتحرك فوق اديم الارض كأنما لم يحدث لها ذلك التغير قط .
الرجل الاول والأنثى في العهد القديم ، قصة التكوين ، آدم وحواء ، مضغة الجنين البشري الاولى ،انها افعى بديعة بالغة الدقة والرشاقة،اخافه رعبها واصابه الفزع لمجرد اعتقاده ان كل افاعي الحديقة ربما ستأتي بهدوءلأنقاذ الافعى البنية الصغيرة ، وسيحطنه بما يميزهن من صورة الهلع الشيطانية التي لاطاقة له بها ، فهذا المتنزه الشاسع لابد يحتوي آلافا من الحيات المهاجمة بين ارجائه سيتمكن ببساطة من اصابته بالشلل الكلي ماان يكتشفن مافعله بالأفعى الصغيرة .
توقف في الحال ، وأخذ يجيل النظر فيما حوله ، كل شيء هادئ ،صمت توراتي يشبه ذلك الصمت الذي صاحب بدء الخليقة .
التقطت اذناه صوت تقافز طائر بالقرب منه مابين الغصون تحت العريشة الواطئة ، لكنه كان بمفرده مع الافعى وقد نسي انه في متنزه عمومي في احدى كبريات المدن ،عبرت احدى الطائرات السماء فوق رأسه ،لكنه لم يرها ولم يسمع لها صوتا ،كان الصمت شاملا ،وكانت رؤيته مركزة كليا على الأفعى التي امامه .
هاهو في الحديقة الواسعة بصحبة افعى ،بكامل هندامه ، عند البدايات من عام 1932. قرفص على اعقابه ثانية ،وبدأ متآلفا ، متوحدا برفقة تلك الافعى ، اثار ذلك الضحك في نفسه ، في داخل سريرته او خارجها ،متخذا نفس هيئة الافعى المتجسدة امامه كأنها جزء من كينونته ،منبطحا بشكل مستو ٍ على الارض ،رغم حصافته وفطنته ، متشظيا شيئا فشيئا وملتحما مع الوجود. ياله من احساس هائل ، في البداية لم يكن ليتجرأ على محادثتها بصوت عال ٍ ،ولكنه بمرور الوقت اصبح اقل خجلا ،فأخذ يكلمها بالانكليزية ، انه لمن دواعي
السرور ان يكلم المرء افعى ،جيد ، قال ، هاأنذا بعد كل هذه السنوات ،
رجل شاب اعيش على الارض نفسها ، تحت الشمس نفسها ، امتلك العواطف نفسها ، وها أنت قبالتي يحدث معك الشيء نفسه ،فحالتنا واحدة ، اذن مالذي قررت فعله ، الهرب ؟ لن ادعك تفرين مني ،
اخبريني مالذي يدور في خلدك ؟وكيف ستدافعين عن نفسك ؟ فقد
قررت القضاء عليك التزاما بمبدأ انسانيتي .
انتفضت الافعى امامه بيأس ، وكفت عن تحاشي غصنه بعد ان قاومته لمرات عديدة، وماعادت قادرة بسبب التعب عن درء أذاه ، ابعده عنها قليلا فسمع صوتها خافتا تقول: شكرا، بدأ يصفر لها بفمه ليرى هل للموسيقى اي تأثير على حركتها ،او ستدفعها للرقص ،انت حبي الوحيد ، اخذ يصفر عزفا لشوبرت من كوميديات فرقة نيويورك الموسيقية ،(حبي الوحيد ...حبي الوحيد ) لكن الافعى لم تحرك ساكنا ولم يرقصها اللحن ،فكر ، ربما سيثيرها شيء من ايطاليا،راح يغني )la donna e mobile لحن المرأة المتنقلة )، متعمدا الخطأ في تلفظ
كلمات الاغنية ، متسليا باخطائه، ثم جرب ان يغني لها تنويمة لبرامز ، لكن الموسيقى لم تعد نافعة للتأثير عليها لانها بدت خائرة القوى ، خائفة ،وكل ماتريده هو الخلاص .
اندهش من فعلته فجأة ،فخطر في باله ان يترك لها فرصة للنجاة ، ويدعها تنزلق بعيدا لكي تضيع في ذلك العالم السحيق للنوع الذي تنتمي اليه ، ولكن لم عليه اطلاق سراحها ؟رفع حجرا ثقيلا من الارض وفكر ، الان سأقوم بتحطيم رأسك بهذه الصخرة لكي اراك وانت ميتة ،لكي اسحق من خلالك الشيطان الماهر الذي يتلبس فيك ثوب الخطيئة ،اقطعك اربا اربا لابعاد غوايات شرورك .
لكن الغريب في الامر انه لم يلق الحجر فوق رأسها ولم يسقطه من يده ،وبدأ فجأة يتملكه شعور بالأسى ، قال: انا آسف ،ورمى الحجر بعيدا ، : ارجوك ان تعذريني ، ارى ان الحب وحده مااحمله لك.. ثم حاول ان ينوشها بيده لكي يحملها ،وكله رغبة في فهم الحقيقة المتأتية من جراء لمسها ، لكن الأمر كان في غاية الصعوبة،فقد اخذت ترعب الافعى محاولته مد ذراعه في كل مرة ،واخذت تدير رأسها مستعدة للهجوم ( لااملك نحوك سوى شعوري بالحب ، لاتخافي ، لاتخافي ،فسوف لن اقدم على ايذائك) بعد ذلك قام برفعها من الارض ،لكي يتعرف شعور ملامستها الحقيقي، لكنه رماها من يده بسرعة ،هناك ، قال: الآن عرفت الحقيقة ، الافعى باردة ،ولكنها نظيفة ،وليست دبقة كما كنت اتوقع .وابتسم للأفعى البنية اللون قائلا :
(يمكنك ان تغادري الان ، انتهت اسئلتي الفضولية ، انك ماتزالين حية ،لقد كنت في حضرة الانسان ومازلت تتمتعين بالحياة ،يمكنك الذهاب الآن) لكن الافعى لم تغادر مكانها ،ولم تتحرك ،بعد ان غادرها الخوف الذي احسته في البداية ،اشعره ذلك بالخجل المرير لما فعله من اجلها ،فملأ نفسه الغضب ، فكر ، يايسوع ، لقد ارعبت افعى صغيرة ،
لن افعلها مرة اخرى ابدا ، ستتذكرني دائما مهيمنا فوقها . . خاطبها اذهبي بحق السماء ،عودي الى فصيلتك واحك لهم ماشاهدته بنفسك ومارأيته بعينك، اخبريهم بماذا شعرت وحرارة يد الانسان التي تبعث المرض تقربك ،حدثيهم عن مشاعرك وانت في ذلك الموقف . ) فجأة اندارت الافعى عنه وتزحلقت متجهة الى الامام ،مبتعدة ،(شكرا لك ) قال لها ، وقد بعثت في نفسه الغبطة ،فبدا يقهقه وهو يلمحها تندلق بجسدها بين الاعشاب والاوراق ، شاقة طريقها بعيدا عن جنس البشر ، صرخ : رائع ، اذهبي واخبريهم انك كنت مع الانسان ورغم ذلك مازلت على قيد الحياة ، فكري بكل الافاعي التي عاشت وماتت دون ان ترى انسيا مرة ، فكري بماذا يعني لك هذاالامتياز. .
بدت له الافعى الصغيرة وهي تنأى مبتعدة ، كأنها تنشد جوها الاصلي الذي يبعث في قلبها الضحك والسرور ، أشعره ذلك بالبهجة والفرح ايضا فشق طريقه مغادرا، عابرا الممر المقابل .
في ذات المساء ، بينما كانت جالسة عند البيانو ، مبتدئة عزفهاالرقيق ، اسر لها : - حدث لي اليوم أمر مضحك .
تساءلت وهي مستمرة في عزفها : - امر مضحك ؟
قال: - نعم ، كنت اتمشى في المتنزه فصادفت افعى صغيرة ذات لون بني .
توقفت عن العزف وادارت رأسها نحو الاريكة حيث يجلس لكي تستطيع رؤيته : - افعى ، ياللقبح .
اجابها : - كلا ، كانت جميلة .
- ماذا عنها ؟
- اوه ، لاشيء ، فقد امسكت بها لفترة قصيرة ولم ادعها تفلت .
- ولكن لماذا ؟
قال: - ليس هناك سبب وجيه على كل الاحوال .
تمشت عبر الغرفة ،ثم جلست الى جانبه وهي تنظر اليه بغرابة ،قالت:- خبرني عن تلك الافعى ...
- كانت لطيفة ، ولاتمت للقبح بصلة ، حين لمستها شعرت انها بالغة النظافة .
قالت :انا مسرورة جدا ، ماذا ايضا ؟
قال: لقد اردت قتلها ، ولكنني لم اقدر ، كانت جدا جميلة . . قالت : يطيب لي ان اسمع ذلك ، احك لي عن كل شئ.
- هذا كل مافي الأمر .
- لا ليس ذلك كل شئ ، اريد المزيد .
- كانت مسألة مضحكة جدا ، محاولة قتل تلك الافعى والتوقف عن المجيئ هنا ثانية .
قالت : ألم تخجل من نفسك ؟
- بالطبع ، اخجلني ذلك .
- ماذا بعد ؟ مالذي فكرت به، هل فكرت بي مثلا عندما كانت الافعى تسعى امامك ؟
قال: سيغضبك ذلك .
- اوه ، لايهم ، من المستحيل ان اغضب منك ، حدثني .
- حسن ، اعتقدت انك حبيبة ، ولكنك شيطان ماثل ، شيطان ، ألم اقل لك ان ذلك سوف يغضبك ؟
- وماذا ايضا ؟
قال : - ايضا انا لامست تلك الافعى ،لم يكن ذلك سهلا ،ولكنني التقطتها وحملتها بين يدي.
- مالذي دعاك لفعل ذلك ؟
- انت قرأت كتبا كثيرة حول هذه الاشياء ، فماذا يعني ذلك ؟التقاطي للافعى ؟
اطلقت ضحكة متذاكية ، بصوت خافت: - لماذا ؟ انه يعني ببساطة انك احمق ، يقول لماذا ، ياللروعة .
قال : هل ذلك طبقا لما جاء به فرويد ؟
ضحكت : نعم ، تطبيقا لفرويد .
قال : حسن على كل حال ، كان لطيفا اطلاق سراح الافعى .
تساءلت : هل قلت لي يوما انك تحبني ؟
- كان عليك ان تعرفي انني لاأتذكر شيئا ، ولا شيئين ،قلتهما لك .
قالت : لا ، انك لم تقل لي ذلك قط.
غرقت في ضحكتها ثانية ، وقد امتلأ قلبها غبطة بشكل مفاجئ له :
- انت دائما تتكلم عن الاشياء الاخرى ،الاشياء الخارجة عن مواضيعها ، الاشياء المثيرة للدهشة والتي تاتي في غير أوانها .
واستمرت تضحك ، قال هو : - مالذي تتكلمين عنه بحق الجحيم ؟
قالت : انا مسرورة كثيرا لانك لم تقدم على قتل تلك الافعى .
عادت الى البيانو ، ووضعت يديها برشاقة فوق المفاتيح :
- صفرت لها بضعة ألحان ، صفرت لها قطعة من شوبرت ، السمفونية الناقصة ،انا احب سماعها كما تعلمين ،أنغام الفرح التي يدعونها ( الازمان المتفتحة) الجزء الذي يقول ( انت حبي الوحيد ..انت حبي الوحيد ) وهلم جرا ..
بدأت تعزف برقة ، وقد غمرها شعور أخاذ بينما هو يتطلع اليها ، مصوبا نظراته نحو شعرها المنسدل ،يبصرها محدقا بيديها ، عنقها ،
ظهرها وذراعيها ، شعرت به وكأنه يدرسها ،كما لو كان يدرس افعى.

المصدر: الحافة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حمدي علي الدين
المدير
المدير
حمدي علي الدين


ذكر عدد الرسائل : 1252
تاريخ التسجيل : 15/04/2007

أفعى Empty
مُساهمةموضوع: رد: أفعى   أفعى Icon_minitime9/6/2007, 06:56

وليم سارويان ..كاتب البسطاء والحب الذي لايموت


عبد الفتاح قلعه جي

"سر المسرح هو الحب.. والحب خالد، أما الكراهية فتموت"
هكذا يقول على لسان أبطاله وليام سارويان الكاتب الأمريكي - الأرمني الذي حمل معه سحر الشرق، بحكم انتمائه الأسري له، وبشّر بفلسفاته في قدسية الروح الإنسانية، ، وراح يزرع بما أبدع من قصص ومسرحيات في القارة الجديدة المليئة بالمتناقضات والصراعات والقسوة حب الناس للناس، ولا شيء غير الحب ، موقناً بأن الكراهية لا بد أن تموت.
نصوصه مرآة للانسان البسيط المسحوق الذي تتفنن قوى الظلم والبؤس الاجتماعية في أن تذيقه ألوان المعاناة ولكنه يبقى مصراً على الحياة متسلحاً بحب إنساني لا محدود وأمل شارق. وهو مصر على كشف أسرار الحياة من خلال مغامرة العيش اليومية والاتحاد مع الكون، يقول: "كل يوم جديد بمثابة مغامرة مثيرة، فاليوم في حد ذاته مغامرة بصرف النظر عن الاحزان التي تقع فيه، ولايوجد معنى آخر للحياة الا في تلك اللحظة التي يتحد فيها الانسان مع الكون هذا الاتحاد لايبدو فقط في الاحداث الملحمية لكن في كل لحظة من لحظات اليوم الذي يعيشه الانسان العادي".
هذه العلاقة العضوية بين الإنسان والكون تقوم على الحب، وإدراكها هو الذي يمنح الإنسان حريته الواسعة المحدودة. يقول د.نبيل راغب في موسوعة أدباء أمريكا "الإنسان لدى سارويان هو ذلك الكائن الذي يعرف مكانه جيداً من العالم المحيط به، عندئذ يمكنه الانطلاق من قيود اللحظة الراهنة والخروج الى المجال المشحون بالقوى غير المحدودة والمعجزات الباهرة. ذلك المجال الذي يفقد فيه الزمن سطوته الباهرة "
وما دام الانسان هو النسيج العضوي والأساسي في هذا الكون فانه من الممكن ان يدرك الكون كله من خلال نفسه. وهذه النظرة إلى الإنسان والكون تتلاقى مع فلسفة ابن عربي في الإنسان الكامل، الإنسان الذي يختزل في داخله الكون كله ، يقول ابن عربي:
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وفي الحلم وأحلام اليقظة، حيث يتكرران في شخصياته، تتحقق لدى الإنسان حالة من الشفافية يلتقى معها بذاته. يقول في قصته القصيرة " الفتى الشجاع على العقلة الطائرة" التي كانت بداية شهرته الأدبية عام 1934 :" في النوم فقط يمكننا أن نعرف أننا أحياء،، فقط في ذلك الموت الحي نقابل أنفسنا".
تعاني النفس في فلسفات التصوف لدى ابن سينا والسهروردي وابن عربي وغيرهم من الأسر وثقل الزمن منذ أن تقيّد بناسوت الجسد، فهي أبداً تلك الورقاء التي تجاهد للعودة إلى منشئها. ومثل هذه الفكرة والإحساس نجدهما عند سارويان حين يقول عن حياته : "قضيت أربع سنوات في الميتم وسبعا في المدرسة وثلاثا في الجيش وفي كل مرة يُلقى فيها القبض علي يبدو الزمن حينها ثقيلا أبديا، لكنني كنت مخطئا فالحقيقة هي أنني قد ألقي القبض عليَّ منذ أن ولدت، منذ أن أبصرت نور الحياة".
ولد وليم سارويان عام 1908 في في بلدة فريسنو بولاية كاليفورنيا في أسرة أرمنية فقيرة هاجرت إلى أمريكا، وعانى شظف العيش فاشتغل بائع صحف وموزع برقيات ثم عمل في إحدى المزارع، مما أتاح له التعرف على نماذج إنسانية عديدة في المجتمع.
واستطاع بائع الصحف الأرمني الفقير هذا أن ينال جائزة بوليتزر الادبية ويحقق شهرة أدبية واسعة حتى أصبح واحداً من أبرز كتاب القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية.
مسرحيته الأولى "قلبي في الأراضي المرتفعة" التي تحمل نفح الروح الشاعرية في عالم مادي، قدمته ككاتب مسرحي فكان أن تلاها بمسرحية " أيام العمر" كتبها في ستة أيام مابين 8-13/5/1939 وقدمت على خشبة المسرح بعد خمسة أشهر ونال عليها جائزة بوليتزر. وهذه المسرحية، وهي من أمتع ما قرأت، تنساب فيها العلاقات والمشاعر الإنسانية كجدول رقراق، فثمة شخصيات تلتقى صدفة في حانة: كيتي الفتاة المعدمة الشابة، وكيت كارسون المقاتل الهندي العجوز، والرجل العربي العازف على الهارمونيكا والذي يلخص فلسفته في الحياة بقوله: " كل شيء في حيص بيص" ، وهاري الراقص المحترف، وويسلي الصبي الزنجي العازف على البيان بشفافية حزينة والذي أغمي عليه من شدة الجوع، ودودلي الشاب العاشق.. وشخصيات أخرى كثيرة هي نماذج لبسطاء الناس ومعوزيهم، أما "جو" الشاب الغني المتبطل فيعتبر نفسه مسؤولاً عن البشر، يقول : " الواقع أنني احس بالمسؤولية تجاه كل إنسان" ، أنقذ حياة توم الذي كان مريضاً وجائعاً فأصبح مريداً له، وانتشل كيتي من محيطها وزوّجها بتوم، وهو يشتري جميع نسخ الصحف من بائعها الصبي ويرميها ليخفف عنه عناء البحث عن مشترين. أما " نيك" الطيب صاحب الحانة فيراقب كل شيء، ويرحب بالجميع، وتجيء المومسات إلى حانته ويدعين أنهن ذوات موهبة كي يؤمن لهن عملاً، وتجيئه أيضاً شخصيات راقية ، ولهذا فهو يقول إن حانته العتيقة الرخيصة ذات شخصية مجنونة.
أبطال سارويان نماذج بشرية طيبة إنسانية يجمعها الحب والإيثار ، وهو يثق بهم ويتعاطف معهم، ويقدمهم للقارئ بحنان ورقة وشفافية، وحتى الأشرار فإنه لا يحتقرهم بل يعطف عليهم ويحاول أن يفهمهم، أما فعل القتل إن وجد كما في محاولة جو قتل "بليك" الشرطي الذي يتقصد إيذاء الضعفاء فهو ليس قتلاً للشرير وإنما هو قتل للشر. يقول " حاول ان تفهم الأشرار والضالين على حقيقتهم، ولا تجد غضاضة في ان تكون رحيماً رقيقاً ، ولكن إذا اضطرتك ظروف الحياة إلى أن تقتل فاقتل ولا تندم على ما فعلت". وإذا كانت شخصياته في " أيام العمر تلتقي في حانة عتيقة رخيصة، فإنها في مسرحيته أهل الكهف تلتقي أيضاً في مسرح مهجور، وفي روايته الكوميديا الإنسانية التي تمت مسرحتها تلتقي في مركز للبريد، والتي تعتبر بحق معزوفة إنسانية خالدة، فمثلما الإنسان هو الجزء العضوي الذي يُختصر فيه العالم، فإن المكان هو المعادل المكان- المادي للمجتمع البشري تتحرك فيه شخوصه، وهذا المكان هو دائماً الرحم الدافئ الحاني للمجموعة الإنسانية التي يحتويها. يقول الملك(المهرج العجوز) في مسرحية أهل الكهف وهو يودع المسرح المهجور قبل أن يهدم: " وداعاً أيها الرحم، الكهف، المخبأ، البيت، الكنيسة، العالم، وداعاً عامراً بالحب" . ثم تنتقل مجموعة سكان الكهف إلى كهف آخر، مسرح مهجور آخر شرقي المدينة.
المعقول واللامعقول، الحلم والواقع، تتمازج بفنية عالية وإحساس عميق حين تواجه وتتقابل الذات الإنسانية الداخلية النبيلة التي أرهفها الحب والإيثار والتضحية مع العالم الخارجي بكل برودته وقسوته وصلابته. وثمة إصرار في النهاية على التحدي واستمرار الحياة والثقة بالنفس، وفي هذه النقطة حيث الدعوة إلى التفاؤل والأمل، يلتقى مع الأثر الأخير الذي تتركه أعمال تشيخوف. شخصيات سارويان هي شخصيات إنسانية ساطعة، والدراما لديه تتولد من بلورة الحالة الإنسانية في مركز الرؤية ، وهذه الشخصيات هي انعكاس حقيقي لروح سارويان وشخصيته، ولعل اللقاء التالي الذي جرى بينه وبين طبيب حلبي يوضح هذا الأمر.
يروي الطبيب الحلبي طوروس طورانيان قصة لقائه مع وليم سارويان في دكان خياط في شارع لافاييت بباريس، حيث جرى بينهما الحوار التالي:
سارويان: هل أنت من حلب؟
طوروس: نعم، أنا من حلب.
سارويان: أنا أحب حلب كثيرا، وأحب أسواق حلب وأحب قلعة حلب، العرب قوم بسطاء وأنا أحب الناس البسطاء. ولكن قل لي هل يوجد مسرح في سورية؟
طوروس : طبعا. يوجد مسرح في سورية.
سارويان: المسرح هام يا طوروس، اكتب للمسرح ، قل للسوريين أن يكتبوا للمسرح
طوروس: ولكنني لا أعرف كتابة المسرحيات.
سارويان: لا عليك، أنا أعلمك. أنت متزوج وعندك زوجة وأولاد، حسن، لابد أنك تتشاجر مع زوجتك أحيانا، مثلا جئت متأخرا أو عدت ثملا ، غضبت زوجتك وصرخت فيك، أو طلبت مالاً، وأنت لا تملك ، أو خسرت ما معك في الميسر.. باختصار اكتب عن شجاركما صفحة أو صفحتين.
وتابع سارويان قائلا: لك ابنة عادت متأخرة سألتها أين كنت؟ قالت : ما شأنك ألست حرة ؟ لك ولد قلت له اذهب واشتر لي سجائر. قال : أنت تدخن اذهب واشتر سجائرك بنفسك، وبما أنك أب فقد غضبت عليه .. اكتب كل ذلك في صفحة أو صفحتين . لو كتبت كل يوم هكذا لوجدت نفسك وقد كتبت ستين صفحة بعد شهر ، وسترى نفسك وقد كتبت مسرحية ، وتكون هذه المسرحية مسرحية حلب . إنهم لا يرون حلب في أمريكا أو باريس، ولا يرون حلب في ألمانيا أو اليابان أو يرفان، فإذا كنت صادقا فيما كتبت وعرضت المسرحية في هذه البلدان سيشاهدها الناس ويرون حلب ويحبون حلب ، وهذه قوة المسرح.
طوروس : ولكنني طبيب مخدر ولي عملي الذي يشغل معظم وقتي.
سارويان: حسن تقول إنك طبيب مخدر ، حسن، هل مات أحد بين يديك ؟
طوروس: نعم، كان صبيا في الثالثة عشرة اسمه عمر.
سارويان: لا أهمية للاسم أو الجنسية أو الدين.. هذه حادثة تصلح لأن تكون مسرحية بشرط أن تتسلح بكل المشاعر الإنسانية النبيلة.
طوروس : وكيف؟
سارويان : حدث نفسك وقل: مسكين عمر لم يتمتع بالحياة ، مسكينة أم عمر كم تعذبت وهزت السرير ونسجت الأحلام لترى ابنها وقد كبر وأصبح طبيبا أو مهندسا أو محاميا. ماتت أحلامها وبقي الحزن إلى الأبد. مسكين أبو عمر توقع ابنه أن يحفظ ذريته فمات بسرعة خاطفة، لا شيء أفظع من هذا. وأنت عندما مات الصبي خفق قلبك واكتهلت بسرعة وفكرت، لماذا مات ، ما ضر لو لم يمت، وتألمت، لقد ذهب عمر وبقي الحزن في القلوب!
أخيرا .. هذا هو سارويان ينحت لنا بأناة وتمهل في أعماله القصصية والمسرحية، الشخصيةَ الإنسانيةَ التي تكتنز الحياة بآلامها وإشراقاتها، وتكبر بمحبة الإنسان.

المصدر :مسرحيون
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
أفعى
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأولمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــب :: الرؤى :: رؤى العالم الجميل-
انتقل الى: