الأولمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الأولمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــب

للإبداع الأدبي الحقيقي بحثا عن متعة المغامرة
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 شهادة أدونيس (2)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حمدي علي الدين
المدير
المدير
حمدي علي الدين


ذكر عدد الرسائل : 1252
تاريخ التسجيل : 15/04/2007

شهادة أدونيس (2) Empty
مُساهمةموضوع: شهادة أدونيس (2)   شهادة أدونيس (2) Icon_minitime23/4/2007, 00:32

-2-

أقول، إذاً، ولدت منفياً.
قصّابين، القرية التي ولدت فيها فاتحة المنفى – ديناً، وفناً، ثقافةً وعلاقات. حفظت معظم القرآن غيباً وأنا في الثانية عشرة من عمري. وتعلمت الخط والقراءة في «الكتّاب» تحت شجرة في الهواء الطلق. قرأت دواوين الشعراء العرب الكبار، برعاية أبي وتوجيهه وإرشاده. غير أنني، في هذا كله، كنت أشعر في قرارتي بأنني أتعلم كذلك المنفى.
كأن قصّابين لم تكن، في سريرتي، مقاماً، بقدر ما كانت انتظاراً. وكان يخيل إلي أن بقائي فيها لن يجديني في أي شيء. وسأظل ما دمت فيها كمن يسائل الحجر، ويناقش الريح.
في ذلك العهد كانت المنطقة التي نشأت فيها لا تزال تعاني من التهميش والعزلة والإهمال. وكانت جميع سبل الخروج مقفلة، إلا اثنان: الجندية ومجال العلم والتعليم. كانت الجندية خارج عالمي وأحلامه. وكان العلم مستحيلاً بسبب الفقر وغياب المدرسة.
فجأة، لا أعرف كيف. رسمت خطة للخروج من القرية، في شكل حلم من أحلام اليقظة. كانت سورية قد نالت استقلالها، وتحولت إلى جمهورية، وانتخب رئيسها الأول شكري القوتلي. وقد شاء أن يزور المناطق السورية، ليتعرف على هذه الجمهورية، بالمشاهدة والتجربة. قلت في حلمي: سيأتي إلى منطقتنا، إذاً، سأكتب له قصيدة. سألقيها أمامه. سوف تعجبه. وسوف يطلبني بعد سماعها لكي أراه. وسوف يسألني: ماذا يمكن أن نقدم لك؟ وسوف أجيبه: ليس في قريتنا مدرسة، وأريد أن أتعلم.
وتم الحلم كما رسمته. وصار واقعاً حياً. وربما، كان عليّ، لكن في إطار آخر، أن أكتب جواباً عن هذا السؤال: كيف يتحول الحلم إلى واقع؟
خرجت من القرية إلى المدرسة التي كانت الأخيرة في سورية، بين مدارس البعثة الفرنسية العلمانية، وكانت في مدينة طرطوس. وبعد سنتين، أغلقت هذه المدرسة نهائياً. وانتقلت إلى مدرسة من المدارس الوطنية، التي بدأت تنشئها الجمهورية السورية الناشئة.
كان خروجي إلى المدرسة الفرنسية العلمانية، فاتحة لخروجي في اتجاه عالم آخر، عبر القرية التي ولدت فيها، وبدأت أشعر بتجسدات منفاي الأصلي – في الطائفة، في الحياة الاجتماعية، وفي الحياة السياسية والإيديولوجية. بدأت أشعر في المقابل، بأن عليّ أن أخلق عالماً خاصاً – أن أتخلص من هذا المنفى، أن أتساءل أولاً عن انتمائي الطائفي. وأن أتخلّص من هذا الانتماء وأتساءل عن عزلة الطائفة، وعن هذه الجزر المغلقة على بعضها بعضاً. من أنا في الطائفة؟ ومن هذه الطائفة؟ اجتماعياً، ومدنياً، كانت القرية الرمز المدني لهذه الطائفة. والفلاح رمزها الاجتماعي. وكانت المدينة تنظر إليها بنوع من التعالي، حيناً، ومن الازدراء والكراهية حيناً، مع ما يتبع ذلك من تصوير نمطي متدنٍ دينياً واجتماعياً، ومن الشفقة حيناً آخر. كان التاريخ هو الذي يفكر ويقوّم – وكانت المدينة لسانه الناطق.

-3-

كيف أخرج من المنفى؟ سؤال طرحه ويطرحه كثيرون غيري. وربما قدموا أو يقدمون أجوبة غير أجوبتي. هو إلى ذلك سؤال لن أجيب عنه بلغة عامة، لغة المواطن العربي الذي نفته الدول بحيث يفقد مواطنيته، ولا يعود موجوداً إلا اسماً ورقماً. ولن أجيب عنه بلغة ناطق باسم قضية أو نظرية. سأجيب عنه انطلاقاً من تجربتي الشخصية الخاصة كما أشرت. فالتخصيص هنا هو الأجدى، والأكثر إضاءة.
لا أريد أن أحتجب في نقل ما أراه الحقيقة، وراء أيّ حجاب، كما أشرت سابقاً. لا حجاب المراعاة أو الموضوعية أو الخوف، ولا أيّ حجاب آخر يمكن أن ينسجه المحرم والمقدس. كل مكبوتٍ، كل ما لا يقال ليس إنكاراً للحقيقة وحدها، وإنما هو إنكار للإنسان ذاته. إذا شاء المجتمع أن يحترم كينونته، فإن قوته الوحيدة في ذلك هي إنسانيته الحرة والمفتوحة. من دون ذلك لن يكون أكثر من قطيع.

-4-

كانت الإيديولوجية السياسية التي تبنّاها أبناء جيلي أو معظمهم، لكي أكون أكثر دقة، تسير في السياق التقليدي القديم. وكانت في هذا الإطار توصف، في أحسن حالاتها، بأنها ترتيب وتحسين وتزيين. وفيما كان كل من أبناء جيلي يقول فخوراً مزدهياً: أنا أنا، مشيراً بالأنا الثانية، إلى الماضي العربي، كنت أتمتم في ذات نفسي حائراً متردداً: أنا لا أنا.
الفترة التي عرفت فيها يقظتي على العالم والأفكار والأشياء، كان يقودها منطق الهوية – الهوية المزدهية حتى الغطرسة، والمكتفية بذاتها. وكان يمثل هذا المنطق، على نحوٍ أخصّ، حزب البعث العربي، رافعاً القومية العربية إلى مستوى المسلّمة الميتافيزيقية، كما لو أنها لاهوتٌ ثانٍ. هكذا لم يكن يرى في الآخر الذي يعارضه إلا الفساد والشر. لا أزال أذكر الأستاذ الذي كان يدرسنا التاريخ، عبدالحميد دركل. كأنني أراه الآن يروح ويأتي في الصف، مزهواً بكلامه على العروبة والأصل القومي العربي، والوطن العربي الواحد، والأمة العربية الواحدة، ورسالتها الخالدة الواحدة. لا يزال يرنّ في أذني قوله: «هناك أشخاص يقولون بالانتماء الى السومريين والبابليين والآشوريين والفراعنة والفينيقيين. هؤلاء حشرات يجب أن نسحقهم بأقدامنا».
كان هذا المنطق امتداداً للمنطق الأصولي الديني، من حيث انغلاقيته، وسهره على صحة الأصل، وفكره الإقصائي الطغياني. وكما كان الأول عدواً شرساً لكل انتماء غير عربي، داخل البلاد العربية، كان الثاني عدواً شرساً لجميع الفرق الدينية المنشقة عن الجسم الرسمي للأمة – الدين الواحد.
كنت في هذه الأثناء قد انخرطت في حركة فكرية سياسية هي الحزب السوري القومي الاجتماعي، ظنّاً مني بأنه يجسد الصورة المغايرة، المرجوة، للصورة السائدة في المجتمع السوري، وإذاً للثقافة السائدة. وأنه تبعاً لذلك يخرجني من منفاي – منفى الأقلية. تمثلت لي هذه الصورة أساسياً في الدعوة الى العلمانية، أي الى بناء مجتمع ينفصل فيه الدين عن السياسة، بحيث يكون تجربة شخصية لا تلزم أحداً إلا صاحبها.
تمثلت أيضاً في النظرة اللاعرقية الى المجتمع، والقول: في البدء كان التعدد – أعني أن المجتمع مزيج بشري ثقافي، في كل موحد، يتخطى أي انتماء عرقي. ويوضّح هذه النظرة مفهوم وضعه انطون سعادة، مؤسس الحزب، سمّاه «السلالة التاريخية» التي تنصهر فيها الأعراق والثقافات. ويذكّر هذا المفهوم بما طرحه، في ما بعد، الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، وما سمّاه الـ «ريزوم» أو الجذمور، كما يترجمه «المنهل». ويقول لنا الجذمور، كما تقول السلالة التاريخية: في البدء كان التعدد. فالجذمور مجموعة من الجذور تتلاقى وتتشابك، أصلياً. والآخر إذاً، بدئياً عنصر مكوّن من عناصر الذات. لا ذات إلا متشابكة مع الآخر. وهو مفهوم يجنبنا فرض التعريب أو قمع الجماعات الإثنية والاقليات الدينية وإلغاء الهويات وقسرها على الذوبان في هوية عربية واحدة. يجنبنا كذلك الفرز الإتني اللغوي والاجتماعي، فلا يعود المجتمع مجموعة من العناصر المفككة، المتضاربة، كل منها ينظر الى الآخر بوصفه عدواً، وإنما يصبح متحداً، اجتماعياً، مدنياً، واحداً. التهجين، التعددية، التركيب، هي في هذا الاطار، عبارات ليست مجرد صفات أو حالات. إنها كذلك أفعال تتم في التفاعل واعادة التشكيل، بحيث تتعذر معرفة الأصول، وتزول مفهومات الانتماء القومي إلا الى المجتمع والأرض التي تحتضنه. هذا هو البعد الاساسي، وربما الوحيد الذي جذبني الى هذا الحزب. أما البعد التنظيمي الهرمي فكان يقمع التنوع ويتشدد إزاء الرأي الشخصي. كان فيه نوع من المفارقة: يحتضن التعدد الإتني من جهة، ويفرض، من جهة ثانية، فكراً أوحدياً، يقصي المختلف.
في هذا الأفق تغيرت نظرتي الى العروبة. فإذا كانت دون مضمون حضاري معرفي نقدي تساؤلي منفتح وعادل تصبح مسألة عرقية أو بمثابة مسألة عرقية على رغم ما عرفته الأرض العربية من تمازج الشعوب.
في هذا الأفق أيضاً، خرجت من اسمي الأول علي، الى اسم ثانٍ، أدونيس. هكذا بلغة الذات، أخذت أعلن حروبي على نفسي، لكن بأسلحة الآخر الذي يحيا فيّ. أو لأقل: اسم أدونيس إظهار للآخر الذي فيّ، أو هو أنا بوصفي آخر.
غير أن هذا الاسم صار اثماً. عمّق منفاي، داخل بلادي وداخل ثقافتي. ولا يزال يثير لي المشكلات على أكثر من صعيد.
أخذت في ما بعد اكتشف بشكل أكثر وضوحاً، أنني أعيش في عالم يبدو كأنه خطّط سلفاً، ويدار بأساليب تجعل من الإنسان سجيناً، بطريقة أو بأخرى. الحزب نفسه يفقِد الانسان خصوصيته الفكرية، وحريته النقدية، ويصبح داخل سور عقدي منظّم، وحلقة في سلسلة، وصوتاً في جوقة. فمثل هذه الأحزاب أديان أخرى وإن خلت من الميتافيزيقا.
في البيت، في المدرسة، في المؤسسة، في الشارع، كلّ شيء كان يبدو لي كأن سلطة خفية كامنة تحول دون أن يكون الانسان سيّد حياته ونفسه. كأنه يحيا: جسمه في مكان، ونفسه في مكان آخر. وأخذ شعوري يزداد بأنني شخص محكوم، مسيّر، ويحال بينه وبين أن يدافع حتى عن نفسه. تحاصره السلطة أينما اتجه، وكيفما اتجه. لا السلطة السياسية وحدها، بل السلطات الأخرى، الدينية والاجتماعية، الحزبية والثقافية. تنتهي الأخلاق في مثل هذا العالم الى أن تصبح مؤسسة ضخمة للنفاق. وينتهي العالم الى أن يصبح لا مبالاة، والانسان الى أن يصبح وحشاً. النضال من أجل إذلال الانسان: هذا هو جوهر السلطة التي نشأت في ظلها. ولا فرق في ممارسة هذه السلطة بين العسكري والسياسي، الكاتب والشرطي، الشاعر والتاجر، في هذا الحزب أو ذاك. جميعهم في النوع واحد. وإذا كان هناك فرق بين واحد وآخر، فهو فرق في الدرجة لا في النوع. ومنذ بداية الخمسينات، من القرن المنصرم تحديداً، صرت ألمس بالخبرة أن الانسان في الحزب أي حزب أو في المجتمع، ليس موجوداً إلا بوصفه جزءاً من منظومة سياسية أو من النظام القائم أو تابعاً له. الآخرون إما متهمون أو مجرمون سلفاً. وعليهم إذاً، إن أرادوا أن يواصلوا حياتهم، أن يفكروا ويعملوا، في إلغاء كامل لحرياتهم وذواتهم.
وشيئاً فشيئاً صرت أشعر أن نشاطي السياسي ليس أكثر من ماء أصبّه في كأس لا قعر لها. ولم يكن ذلك الماء إلا حياتي ذاتها. وهذا ما أخذ يطرح عليّ سؤال المعنى. ما معنى أن يكون الانسان سورياً او عربياً أو مسلماً؟ وما يكون معنى الفكر، ومعنى الشعر؟ ومعَنى الانسان، قبل كل شيء؟
وفي أواسط الخمسينات عبرت الاختبار الكبير الكاشف: لمناسبة قضية تورط فيها بعض مسؤولي الحزب الذي انتميت اليه، جيء بأعضاء الحزب بالمئات من أقاصي سوريا، من دون أي علاقة محتملة بموضوع المحاكمة، لأنهم بُرّئوا في النهاية أو خرجوا بمنع محاكمة، لكن بعد محن عدة. وقد جيء بي من حلب وأنا في خدمة العلم. ومع أنني خرجت بمنع محاكمة إلا أن الثأر امتد الى ميدان الشعر. بل صار مجرد وجودي وشعري نفسه موضع تساؤل بل يُعدّ عدواناً وتهديداً. وتبين لي الحصار المزدوج: قمع فكري من جانب الاحزاب التي تدعو الى التحرر، وقمع بوليسي من جانب الدولة ومؤسساتها تمثل بوقائع غريبة لا أجد هنا المجال للحديث عنها. وعندما بلغ القمع من الطرفين مستوى الحرية الفكرية والفنية، فضلاً عن السجن مجدداً بلا دعوى، توجب أن أبحث عن الحرية في مستوى آخر. ومع أن المنفى، بالنسبة اليّ ليس في الخارج، وإنما هو في الداخل فقد اخترت بيروت حيث كان الانسان يقدر، على الأقل، أن يعيش منفاه في الداخل، وحيث المعركة من أجل الحرية الفنية والفكرية ممكنة. وجاءت في هذا السياق مجلة «شعر»، وفي ما بعد مجلة «مواقف» أفقاً ووعداً. وقد أتاحتا لي، على الأقل، أن أخوض معركة الحرية الشعرية والفكرية بحسب قناعاتي. وإذا كان خوض المعركة فاتحة أساسية وأفقاً فإنه لم يكن آنذاك حاسماً.

- 5 –
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شهادة أدونيس (2)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأولمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــب :: الرؤى :: الخروج مع الشمس :: بورتريهات إبداعية-
انتقل الى: