وفي عام 44 ق.م شهدت روما عدداً من الانقلابات السياسية التي اصبحت موضوعاً لتراجيديات شكسبير أما فرجيل فقد عاش في نابولي لا يتدخل في قضايا الدولة متبعاً تعاليم ابيقور ولم يزر روما إلا مرة واحدة لاستعادة ارض ابيه ونجح في ذلك وقد عكس ذلك في أول عمل شعري كبير هو « أناشيد الرعاة ». نظم فرجيل « رعوياته» في الاربعينيات ثم قام بنفسه بجمعها في عشرة كتب مختارة دون مراعاة تسلسل نظمها الزمني قلد فرجيل في « أناشيد الرعاة » الشاعر اليوناني « ثيوقريط » ولم يكن التقليد عملاً يحط من قدر الشاعر القديم . وإذا كان هروب ثيوقريط الى حياة الرعاة البدائية ردة فعل انسان مثقف رقيق المشاعر على ضجة المدينة المضجرة فذلك لا ينطبق على فرجيل الذي لم يكن لديه ما يهرب اليه ، وحلمه بالهدوء لم يكن حلم الهارب من المدينة ، بل هو رغبة في سيادة السلام في ربوع بلاده ، ذلك السلام الذي اصبح موضوع شعره اللاحق ايضاً .
فالعمل الشعري التالي الذي ابدعه فرجيل كان « اشعار الحقول » وهو من افضل ما جاءت به عبقرية الشاعر اللاتيني الكبير حيث تضم « أشعار الحقول » نحو ألفي بيت من الشعرمقسمة الى اربعة اجزاء فيها وصف لفروع الزراعة الاساسية آنذاك وبما ان غاية فرجيل اثارة اهتمام القراء بالزراعة فقد كان لزاماً عليه ان يجعل الكتاب مسلياً وشعرياً حقاً . والوسائل التي استخدمها فرجيل من اجل ذلك تدل على عظمة موهبة الشاعر وعلى مهارته في الابتكار وكانت اشعاره تلك تحمل مداخلات حيث تأخذ طابعاً قصصياً في بعض الاحيان .
الاينيادة : نتحدث فيها عن اكثر اعماله شهرة إن لم يكن افضلها فناً .
حيث تروي الاينيادة رحلة بطل ثانوي من ابطال حرب طروادة هو « اينيوس وآلهة الحب فينوس » لقد نجا هذا البطل باعجوبة من الموت فأخذ معه اباه العجوز وابحر نحو الغرب وكان مقدراً عليه من قبل الآلهة أن يؤسس مملكة جديدة للطرواديين أي ان يؤسس روما . حيث كان القصص الشعبي حول اينوس مؤسس روما موجوداً في ايطاليا منذ زمن بعيد ووردت فيما بعد الاسطورة التي تزغم ان بناة روما هم من اصل طروادي في كتب المؤرخين الرومان . فالاينيادة تعد عملاً ادبياً نادراً من حيث النظرة التي نظرها اليها النقاد ومؤرخو الأدب . إذ يتراوح تقييم الاينيادة بين الاعجاب الشديد عند فريق والاستهجان عند فريق آخر .
موضوع الخلاف في الاينيادة :
كان الخلاف على البطل اينيوس لان البطل الملحمي في العادة يكون متمتعاً بكل صفات البطولة أما البطل هنا فهو مسلوب الادارة خاضع للقدر فهو كالدمية بيد الآلهة فالآلهة تتدخل في أموره بدوافع غير مقنعة وغير مفهومة للبشر وهذا التدخل يصل في الاينيادة الى حد السخرية .
النسيج الفني يبدو غير متجانس في الكتاب الاول : خال من المعالجة النفسية حيث كل شيء يجري فيه بناءً على نزوات الآلهة . أما الكاب الثاني : فهو تكرار لهوميروس والكتاب الثالث: بأكمله مواضيع « أوديسة » هو ميروس . الكتاب الرابع : يشير الى موضوع الحب بين ديدونا داينيوس وقد اظهر فرجيل مهارة وقوة خيال فائقتين في وصفه لعواطف ديدونا. الكتاب الخامس :يصف المظاهرة الجنائزية التي اقامها ملك صقلية تحقيقاً لرغبة اينيوس عند قبر والده ويظهر في هذا الكتاب احتفالات اينيوس التي لا تمت بأي صلة للموضوع . أما الكتاب السادس : فيعد قمة الابداع الشعري عنده حيث تختلط في محتوى هذا الكتاب الافكار المتعلقة بمستقبل العالم التي عبر عنها الشاعر في الانشودة الرابعة من اناشيد الرعاة ، مع تعطشه الى النفاذ بخياله الى اعماق العالم الآخر حيث ينتهي المطاف بالموتى كما وصف فيه العالم السفلي من الاينيادة في صفحة تعد من اجود صفحات الشعر العالمي ، يكاد لا يضاهيها في جودتها غير الكاتب دانتي في الكوميديا الالهية ولكن لا تضاهي الكتب الستة من الاينيادة الكتب التي سبقتها من حيث الجودة لان فيها اسماءكثيرة جداً تثير ضجر القارئ لابطال غير واضحي الشخصية حتى ان اسهاب الشاعر في وصف المعارك يبدو ضعيفاً وزائداً عن الحد المطلوب حيث يصف فرجيل معركة فيها خمسة وسبعون قتيلاً يذكر الشاعر اسماءهم جميعاًليجد القارئ نفسه غير قادر على التعاطف مع أي الطرفين المتصارعين .
أسباب شهرة الاينيادة العالمية :
- كانت موسيقا شعر فرجيل ووفرة المحسنات الاسلوبية دليلاً قاطعاً على تمثله تجربة الشعراء السابقين كلها وقدرته الشعرية اللامحدودة .
- كان فرجيل لا يخاف التناقض ووصف الاحداث فهو يجري في شعره دون التفات الى دقة التسلسل الزمني فالزمن بالنسبة اليه كالاسم ليس سوى عنصر من عناصر الجمال ولكنه لا يستطيع أن يصبح عنصراً جمالياً إلا عندما يصبح خارج المجال العددي حيث بلغ الاسلوب الشعري في الاينيادة حد الروعة لأن فرجيل عبر عن فكرة هائلة سعى اليها سياسيو عصره وهي فكرة سيطرة روما على العالم .
لقد كان فرجيل بطبيعته مسالماً ولكنه في الوقت نفسه مواطن لايستطيع إلا ان يفخر بانتصارات روما في الخارج .
ولد فرجيل في مانتوي سنة 07 ق.م كان والده ثرياً لذلك درس في ميلانو ثم في روما في مدرسة الارستقراطية الرومانية حيث درس الفلسفة ولا سيما الفلسفة الرواقية وفي عام 54 ق.م انتقل الى ضواحي نابولي فدرس على يدي الفيلسوف الابيقوري سيرون امتلك هناك قطعة ارض عاش فيها بقية حياته حيث توفي سنة 19 ق.م .
المصدر:جريدة الفرات
7/7/2007, 04:26