كان مرجا صغيرا، بدون شك، كان حقلا تابعا إلى مزرعة قريبة، ولكي نصل إليه، كان علينا المرور تحت سياج من الأسلاك الشائكة. واحدا بعد الآخر، زحفنا على بطوننا كي نجتاز الأسلاك. كنت في منتصف الرتل، بالضبط خلف رالف. وفي اللحظة التي يمر فيها من تحت السلك، وقعت الصاعقة من جديد. كنت على بعد خطوتين أو ثلاث منه، لكن بسبب المطر الذي يصيب جفنيّ لم أر جيدا ما حدث. كل ما عرفته بأن رالف توقف عن الحراك. اعتقدت بأنه أصيب بصدمة، فزحفت إلى قربه، تحت السياج. ما إن وصلت إلى الطرف الآخر حتى أمسكت بذراعه وسحبته نحوي.
لا أعرف كم بقينا في هذا الحقل. ربما ساعة، وخلال هذه الفترة بأسرها استمررنا تحت وابل المطر، بينما الرعود والبروق ماضية في تكبيلنا. كانت عاصفة من تلك العواصف التي انتزعت من صفحات التوراة، وظلت متواصلة، كما لو أنها لن تنتهي أبدا.
أصيب صبيان أو ثلاثة بشيء ما، ربما بالصاعقة أو بصدمة الصاعقة التي تقع على الأرض، على مقربة منهم، في حين كان الحقل يردد أصوات نواحهم. صبية آخرون يبكون ويتلون صلواتهم. قسم ثالث منهم، وبأصواتهم المليئة بالخوف، يجتهدون في إعطاء النصائح السديدة. تخلصوا من كل ما هو معدني، كانوا يصرخون، المعدن يجلب الصاعقة. نزعنا كلنا أحزمتنا ورميناها بعيدا.
لا اذكر أنني قلت كلمة واحدة. لا اذكر أنني بكيت أيضا. حاولت أنا وصبي آخر، جاهدين، سحب رالف باتجاهنا. كان لا يزال مغشياً عليه. فركنا له ذراعيه وساقيه، أمسكنا بلسانه كي لا يبتلعه، قلنا له أن يصمد. مالت بشرته إلى اللون الأزرق بعد لحظات. تراءى لي أن جسده أكثر برودة حين ألمسه، لكن وبخلاف ما كنت أراه، لم يخطر على بالي للحظة بأنه لن يعود إلى رشده. لم أكن سوى في الرابعة عشرة من عمري، إذ وبرغم كل شيء، ما الذي أعرفه حقا؟ لم أكن قد شاهدت ميتا من قبل.
أعتقد أن السبب كان السلك الشائك. الصبية الآخرون الذين أصابتهم الصاعقة شعروا بالتخدير، شعروا بوجع في أعضائهم لساعة أو اثنتين، ومن ثم تعافوا بعد ذلك. بيد أن رالف كان تحت السياج حين ضربت الزاعقة فأصابته بصدمة كهربائية.
بعد فترة، حين قالوا لي انه توفي، علمت بأن حرقا كان على ظهره بطول ثماني بوصات. أذكر بأنني اجتهدت لتسجيل هذه المعلومة وقلت لنفسي ان الحياة لن تبقى أبدا عمّا كانت عليه من قبل. لكن الغريب في الأمر، أني لم أفكر أبدا بأني سأكون إلى جانبه حين حدث ذلك. لم أفكر قبل الحادثة بلحظات، بأنه كان يمكن أن أكون أنا. ما فكرت فيه أني أمسكت له لسانه وبأني نظرت إلى أسنانه البيضاء. تسمرت على وجهه تقطيبة خفيفة بينما كانت شفتاه منفرجتين، لأمضي مدة ساعة وأنا أنظر إلى أطراف أسنانه. بعد أربع وثلاثين سنة، ما زلت أذكر ذلك كله. ما زلت أذكر عينيه نصف المغمضتين، نصف المفتوحتين. هم أيضا ما زلت أتذكرهم.
4
لسنوات خلت، وصلتني رسالة من سيدة تقيم في بروكسيل. أخبرتني فيها قصة أحد أصدقائها، وهو رجل تعرفه منذ الطفولة.
في العام ,1940 تطوع هذا الرجل في الجيش البلجيكي. بعد هزيمة بلاده أمام الألمان، في السنة ذاتها، اعتقل وسجن في مخيم لسجناء الحرب. بقي هناك إلى نهاية الحرب، في العام .1945
كان يسمح للسجناء بمراسلة أعضاء في الصليب الأحمر، في بلجيكا. رأى الرجل نفسه وهو موكول، وبشكل اعتباطي، بمراسلة شابة ـ كانت ممرضة من بروكسيل، منتسبة إلى الصليب الأحمر ـ وخلال خمس سنوات كان يتبادل مع هذه المرأة الرسائل كل شهر. مع مرور الزمن، أصبحا صديقين مقربين. وفي إحدى اللحظات (ولا أعرف بالضبط كم استغرق الوقت ليصبحا كذلك)، شعرا بأن شيئا أكبر من الصداقة قد نشأ بينهما. استمرت المراسلات بينهما، وكانت ازدادت حميمية في كل مرة، وفي النهاية أعلنا لبعضهما البعض حبهما المتبادل. هل كان ذلك أمراً ممكن الحدوث؟ لم يكونا قد رأيا بعضهما مطلقا، لم يمضيا أي لحظة معا.
عند نهاية الحرب، أطلق سراح الرجل وعاد إلى بروكسيل. التقى بالممرضة، والتقت الممرضة به، ولم يخب أمل أي واحد منهما بهذا اللقاء. بعد فترة قصيرة، تزوجا.
مضت السنون. أنجبا الأولاد، شاخا، وتبدل العالم قليلا. وبعد أن أنهى ابنهما دروسه في بروكسيل، ذهب إلى ألمانيا للحصول على درجة الدكتوراه. هناك، في الجامعة، أعجب بشابة ألمانية. كتب إلى والديه ليعلن له عن رغبته في أن يقترن بها.
عبر أهل الشابين عن سعادتهم من أجل ولديهما، لتنظم العائلتان موعدا للقاء والتعارف. في اليوم المنشود، وصلت العائلة الألمانية إلى عند العائلة البلجيكية، في بروكسيل. حين دخل الأب الألماني إلى غرفة الاستقبال وحين نهض الأب البلجيكي لاستقباله، تبادل الرجلان نظرة تنم عن أنهما يعرفان بعضهما البعض. على الرغم من أن سنين كثيرة قد مرت، لم يساور الشك أياً من الرجلين في هويتهما. في فترة من حياتهما، كانا يريا بعضهما البعض، كل يوم. لقد كان الأب الألماني حارسا في المعتقل الذي أمضى فيه الأب البلجيكي فترة الحرب.
وتختم المرأة التي أخبرتني بهذه القصة في رسالتها بالقول إنه لم تكن هناك أي مشاعر بين هذين الرجلين. إذ على الرغم من الوحشية التي كان عليها النظام الألماني، لم يقم الأب الألماني بأي شيء، خلال هذه السنوات الخمس، يجلب نقمة الأب البلجيكي عليه.
مهما يكن من أمر، أصبح هذان الرجلان اليوم، من أعز الأصدقاء. تكمن فرحتهما الكبرى في الحياة، في أحفادهما المشتركين.
5
كنت في الثامنة من عمري. في تلك الفترة من حياتي، ما من شيء كان يبدو لي أهم من لعبة البيسبول. كان «النيويورك جاينتس» (عمالقة نيويورك) فريقي المفضل، وتابعت بإيمان مطلق، مفاخر هؤلاء الرجال الذين كانوا يرتدون الثياب السوداء والبرتقالية. اليوم، حين أفكر مجدداً بهذا الفريق، الذي لم يعد له أي وجود، وبالمباريات التي كان يلعبها في ملعبه الذي لم يعد موجودا بدوره، أستطيع، تقريبا، أن أعيد تشكيل الفريق بكل لاعبيه الذين كانوا يستعدون لخوض المباراة. ألفين دارك، ويتي لقمن، دون موللر، جوني أنطونيللي، مونتي إيرفن، هولت فيلهايم. لكن ما من أحد كان يبدو لي أكبر وأكمل، وأجدر بالعشق من ويلي مايز، المتأجج «ساي هاي كيد».
في ربيع تلك السنة، اصطحبت لمشاهدة مباراتي الأولى من مباريات دوري الرابطة. كان بعض أصدقاء والدي يملكون مقصورة في «البولو غراوندز»، وذات مساء من شهر أيار ذهبوا، جماعة، لمشاهدة العمالقة وهم يلعبون ضد «ميلووكي بريفز» (شجعان ميلووكي). لم أعد أذكر من فاز في تلك المباراة، لم أعد أذكر حتى ولو تفصيلا واحدا من تفاصيل هذه المباراة، لكن ما أذكره أنه بعد انتهاء المباراة، بقي أهلي وأصدقاؤهم جالسين وهم يتناقشون بانتظار أن يغادر جميع المشاهدين الآخرين الاستاد. تأخروا كي يستطيعوا الخروج من باب الحقل الخارجي، إذ كان الوحيد الذي لا يزال مفتوحا، لذلك توجب علينا أن نجتاز مدرجات الاستاد بأسرها. كان ذلك الباب موجودا فوق غرفة ملابس اللاعبين بالضبط.
كنا قد وصلنا إلى الجدار تقريبا حين لمحت ويلي مايز. لا مجال للشك أبدا، كان هو. كان ويلي مايز، الذي بدل ملابسه وارتدى ثيابا مدنية، على مقربة خطوات مني. أجبرت قدمي على السير باتجاهه، وبعد أن شحذت همتي وشجاعتي أجبرت فمي على التفوه ببعض الكلمات: سيد مايز، قلت، هل أستطيع الحصول على توقيعك (أوتوغراف)، إذا سمحت؟
لم يكن يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره على أكثر تقدير، ومع ذلك لم يكن بوسعي أن ألفظ اسمه.
كانت ردة فعله على سؤالي فجائية، لكنها محبة. بالطبع يا بني، قال. هل لديك قلم؟ كان مليئاً بالحياة، أذكر ذلك جيدا، كان يطفح بحيوية الشباب، ولم يكن يتوقف عن النطنطة وهو يكلمني.
لم يكن لدي أي قلم، لذلك سألت والدي إن كان بإمكاني أن أستعير قلمه. بدوره، لم يكن لديه واحدا. أمي أيضا. ولا حتى أي واحد من هؤلاء الراشدين الذين كانوا معنا.
كان ويلي مايز الكبير ينظر إلينا صامتا. وحين تبدى بوضوح بأن لا أحد من مجموعتنا كان يملك شيئا للكتابة، التفت نحوي وهو يرفع كتفيه. آسف يا بني، قال. ما من قلم، إذا ما من توقيع، وخرج من الاستاد وابتعد في الليل.
لم أكن أريد البكاء، إلا أن الدموع أبت إلا أن تغرق لي وجنتي ولم يكن بإمكاني القيام بأي شيء لوقفها. الأنكى من ذلك أني بكيت طول الطريق وأنا في السيارة حتى وصولنا إلى المنزل. بلى، لقد سحقتني خيبة الأمل، وكنت أشعر أيضا بالحنق على نفسي بسبب عدم قدرتي على لجم هذه الدموع. لم أعد طفلا. كنت أصبحت في الثامنة وعلى طفل في عمري أن لا يبكي بسبب أمر مماثل. ليس فقط لم أحصل على توقيع ويلي مايز، بل لم أحصل على أي شيء آخر. لقد امتحنتني الحياة ووجدت نفسي أبلهَ بنظر الجميع.
منذ ذلك المساء، وأنا أحمل قلما بشكل دائم، أينما ذهبت. اعتدت على عدم الخروج من المنزل من دون التأكد بأن هناك قلما في جيبي. لا لأنني كنت أعرف ماذا سأفعل بهذا القلم، بل لأنني لم أكن أرغب بأن أؤخذ على حين غرة. حدث ذلك مرة واحدة ولم أكن على استعداد أن تحصل مرة ثانية.
إن كانت السنون قد علمتني شيئا، فهذا هو: من اللحظة التي نجد فيها قلما في جيبنا، فثمة حظوظ قوية بأن نحاول استعماله.
وهذا ما أقوله لأولادي، بشكل طوعي، بهذه الطريقة أصبحت كاتبا.
السفير