أنطون تشيخوف
(بمناسبة صدور "أ. ب. تشيخوف" في إطار سلسلة آفاق عالمية)
ترجمة: محمد الربيع
أنطون بافلوفتش تشيخوف، اسم معلق كالتميمة على ذاكرة الابداع الانساني، وصارت أعماله القصصية والمسرحية مثل بستان الكرز والخال قانيا وانتاجه عموماً، من كلاسيكيات السرد الانساني، تزداد عتقاً وبهاء كلما امتدت بها دنيا الزمن، وتغتنى بالقراءة واعادة القراءة، كأنها ألق يجدد نفسه. ويعاود نفسه بلا انقطاع. والخبرات العظيمة، التي تمتاح من الينابيع البعيدة للتجربة الإنسانية، وتعيد صياغة الكون، وتحول تفاصيله إلى فن. تحيط بها دائماً خبرات حياتية ووجودية عظيمة، تهبها العمق والسطوح، وتمد لها أسباب الانتماء إلى الذاكرة الانسانية على اتساعها.
وتستهدي التجارية المبدعة الكبيرة، دائماً بموقف فلسفي وانساني ورؤية فنية نافذة وخلاقة تجعلها تعبر الازمان العابرة وتوحي وتدل في كل مكان وكل زمان.
وكتاب «أ.ب. تشيخوف» الصادر حديثاً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، في اطار سلسلة آفاق عالمية، بترجمة أحمد القصير، تقدم كشفاً لمتون تشيخوف الابداعية والنص المحيط بتجربته باقلام أربعة كتاب هم: الروائي الروسي الكبير مكسيم غوركي، وزوجته الممثلة المسرحية أولغا كنيير تشيخوفا، وأصدقاؤه الكتاب، كورني تشوفسكي، وفلاديمير يدميلوف. ورغم مرور سنوات تقارب المائة على تجربة تشيخوف، وعلى شهادات الأربع. إلا أنها -التجربة والشهادات- أشبه بمرآة عاكسة كبيرة، منصوبة في قلب مشهد الابداع الانساني، وتحفر ذاكرته باستمرار للتأمل في هذه التجربة التي تزداد غنى وثراء وتشع بالدلالة كلما قرئت أو استعيدت بأي شكل من الاشكال. فهي تقدم كشفاً تفصيلياً لكوكب التفاصيل والكيان والمفاهيم المحيط بتشيخوف ابتداء بالتفاصيل الانسانية الحميمة التي تسردها زوجته الفنانة والممثلة أولغا تشيخوفا، انتهاء بالشهادة الانسانية والادبية الرفيعة التي قدمها مكسيم غوركي والتي استهلها باشارة تختزل موقف تشيخوف من الزمان والمكان وتختصر أحلامه وعلاقته بمجتمعه إذ يقول تشيخوف لغوركي: «هل يضايقك ان تستمع إلى أحلامي؟ إني احب الحديث عنها. لو تعلم مدى احتياج الريف الروسي إلى مدرسين أكفاء، اذكياء ومثقفين! يجب علينا هنا في روسيا ان نهيئ باسرع ما يمكن أوضاعاً خاصة للمدرسين، ما دمنا ندرك أنه ما لم ينتشر التعليم على نطاق واسع شامل فان الدولة سوف تنهار كما ينهار منزل مبني بقوالب من طوب لم يحرق كما يجب. والمدرس يجب ان يكون ممثلاً، فناناً، مشغوفاً بعمله، في حين ان مدرسينا هم أ فراد من الفعلة، انصاف متعلمين، يذهبون إلى القرية لتعليم الاطفال وكأنهم ذاهبون إلى المنفى. وهم ضحايا لسوء التغذية، ضائعو الحقوق، يعيشون في خوف دائم من أن يفقدوا مصدر عيشهم. يجب ان يكون المدرس هو الرجل الأول في القرية، قادراً على أن يجيب عن كل أسئلة الفلاحين إليه، وان يجعلهم يرون فيه القدوة الجديرة بالانتباه والاحترام، فلا يجرؤ أحد على الصياح في وجهه والنيل من كرامته كما يفعل كل الناس في ريفنا -شرطي القرية، التاجر الغني، القسيس، راعي المدرسة، رئيسه، وذلك الموظف الذي يسمونه مفتش المدرسة رغم انه لا يشغل نفسه بالنهوض بالتعليم وانما بالتنفيذ الحرفي لتعليمات المنطقة الدورية. ومن الغرابة أن تقتر على انسان مطالب بتعليم الشعب. تصور -تعليم الشعب! فانه من غير المحتمل ان يحيا مثل هذا الانسان مرتدياً الاسمال، يرتجف من البرد في مدارس رطبة مهدمة، تسممه أدخنة مواقد سيئة التهوية، ويتعرض دائماً لأمراض البرد، وفي سن الثلاثين يصبح كتلة من المرض- التهاب الحنجرة، الروماتزم والسل، إنه عار علينا، فمدرسونا يعيشون ثمانية أشهر أو تسعة أشهر من السنة عيشة الرهبان، لا يجدون من يتبادلون معه الحديث، فيصابون بالغباء بسبب العزلة والحرمان من الكتب والتسلية. فاذا جرأوا على دعوة أصدقاء لزياتهم وقضاء بعض الوقت معهم، ظن الناس أنهم متمردون - تلك الكلمة الحمقاء التي يستخدمها الخبثاء لإرهاب الحمقى.. ان كل ذلك لكريه.. نوع من السخرية بأناس يقومون بعمل عظيم فائق الأهمية، أعترف لك بأني حينما أقابل أحد المدرسين أشعر أمامه بالارتباك من فرط تهيبه ورثاثته. وأحس كما لو كنت أنا الملوم على حالة المدرس التعسة - أشعر بذلك حقاً!».
تكلم لغتك الخاصة!
ويضيء غوركي بصياغة مبدعة المفارقة الاساسية، بين غنى وثراء وعمق تجربة تشيخوف الابداعية، وبين بساطته الآسرة، وميله المستمر للتفاعل مع بسطاء الناس. وكراهيته للتقعر والتعقيد اللفظي والادعاء الاجتماعي يقول غوركي: لقد كان انطون بافلوفيتش طوال حياته صادقا مع نفسه حرا في داخله لا يلقي بالا لما يتوقعه بعض الناس منه او لما يطالب به البعض الآخر الاقل لباقة. ولم يكن يحب الحديث حول الموضوعات الراقية تلك الأحاديث التي يحب الروسيون الانغماس فيها لبساطة قلوبهم ناسين انه من السخف او مما لا يتفق مع ابسط الذكاء الحديث عن ثوب المخمل في المستقبل بينما لا يوجد في حوزتهم مجرد سروال متواضع ولبساطته الجميلة هو نفسه كان يحب كل ما هو بسيط وحقيقي وصادق كما كان لديه اسلوبه الخاص لجعل الآخرين بسطاء، ذات مرة زاره ثلاث سيدات متأنقات للغاية ملأن غرفته بحفيف ثيابهن الحريرية وشذا العطر العبق جلسن بجلال في مواجهة مضيفهن وتظاهرن باهتمام شديد بالسياسة وبدأن في طرح الاسئلة عليه: كيف ستنتهي الحرب يا انطون بافلوفيتش؟ سعل انطون بافلوفيتش وتمهل للتفكير ثم اجاب بصوته الخافت الرزين العطوف: بسلام ولا شك، بالطبع ولكن من الذي سينتصر؟ اليونانيون ام الاتراك؟ يبدو لي ان الجانب الاقوى سينتصر، فسألن في صوت واحد ومن هو الجانب الذي تراه اكثر قوة؟ الافضل طعاما والافضل تعليما، فصاحت احدى السيدات: أليس لماحا؟ وسألت اخرى من تفضل اليونانيين ام الاتراك؟ فنظر اليها انطون بافلوفيتش برفق واجابها وهو يبتسم ابتسامته الوديعة الرقيقة: افضل حلوى الفاكهة، هل تحبينها؟ فهتفت السيدة بشغف آه اجل، وأيدتها اخرى قائلة بلهجة جادة ان لها لماذاقا لذيذا، وبدأت السيدات الثلاث حديثا حيا حول حلوى الفاكهة وتظاهرن بمعرفة معقدة بالموضوع، وكان من الواضح انهن سررن بعدم اضطرارهن الى اجهاد عقولهن والتظاهر باهتمام جاد بالاتراك واليونانيين الذين لم يكونوا حتى هذه اللحظة موضع اي اهتمام منهن، وعند انصرافهن وعدن انطون بافلوفيتش وهن مسرورات: سنرسل لك صندوق حلوى الفاكهة، قلت ملاحظا: كان حديثا لطيفا، فضحك انطون بافلوفيتش برقة وقال:على كل شخص ان يتكلم لغته الخاصة.
فضاح المهازل
ويقدم غوركي في شهادته عن تشيخوف استعراضا شاملا لموقفه الاجتماعي وعلاقته بأفقه الابداعي وانحيازاته النفسية والثقافية وكيف تأخذ طريقها سريا الى نصه وموقفه الجمال اذ يقول: لقد صمم تشيخوف منذ البداية على ان يفضح المهازل المرة الفاجعة في محيط السوقية القاتم ويكفي ان نقرأ قصصه الفكاهية بعناية حتى ندرك كيف ان القسوة واضحة غير ان المؤلف يخفيها في حياء في ثنايا حكاية ومواقف ساخرة. ويكاد يغلب على تشيخوف تواضع عذري، فلم يكن يستطيع تحدي الناس جهارا وعلانية ويصيح قائلا: كونوا اكثر وداعة ألا يستطيعون. وظل يؤمن دون جدوى بانهم سوف يدركون بانفسهم الحاجة الماسة لكي يكونوا اكثر و داعة، ولان نفسه كانت تعاف كل ما هو مبتذل وغير شريف، اخذ يصف الجانب غير المرئي من الحياة في لغة شعرية سامية وبابتسامة الفكه الوديع ولا يكاد المرء يلاحظ التقريع الداخلي المر الذي يكمن تحت السطح المصقول لرواياته، ان الجمهور المحترم يستمع وهو يقرأ قصته «فتاة من البيون» ويعجز عن ان يلاحظ في هذه القصة السخرية المرة التي يوجهها سيد حسن التغذية الى انسانة بائسة وحيدة غريبة عن كل شيء وعن كل انسان، ويخيل لي انني اسمع في كل قصص تشيخوف الفكاهية تلك التنهيدة العميقة الصادرة عن قلب نقي وانساني صادق تنهيدة بائسة حزينة لان الكائنات الانسانية غير قادرة على التمسك باحترام نفسها وتستسلم دون صراع للقوى الوحشية، ولانها تعيش مثل العبيد لا تعتقد في شيء سوى ضرورة التهام اكبر قدر من حساء الكرنب كل يوم ولا تشعر إلا بالخوف من بطش الاقوياء والعتاة. لم يدرك احد طبيعة ألاعيب الحياة الفاجعة بمثل هذا الوضوح والبراعة اللذين ادركها بهما تشيخوف وما استطاع كاتب قبله ان يقدم الى بني البشر مثل تلك الصورة الصادقة القاسية لكل ما هو مخجل ويرثى له في الحياة الدنيئة المضطربة التي تعيشها الطبقة الوسطى. كانت السوقية عدوا له، ناضل ضدها طوال حياته وهزئ بها وسخر منها بريشته الحادة التي لا نظير لها، مكتشفا أبسط اشكالها اينما وجدت، ومهما بدا كل شيء للنظرة الأولى وكأنه منظم كأحسن ما يكون، وملائم كأحسن ما يكون، بل ومتألق كأحسن مايكون، وقد ثأرت السوقية لنفسها بمهزلة قذرة يوم وضع جثمانه - جثمان الشاعر - في عربة سكة حديد مخصصة لنقل القواقع.
إن هذه العربة القذرة ذات اللون الاخضر تصدمني وكأنها السوقية تتشفى بابتسامة انتصار عريضة وهي ترى نهاية عدوها الذي أضناه التعب، ثم وهي تسمع ذلك الركوم من الذكريات التي تسوقها الصحافة الصفراء - مجرد احزان منافقة اكاد احس من ورائها انفاس السوقية الباردة القذرة ذاتها، التي ابتهجت في الخفاء لوفاة عدوها.
ضد الابتذال
وتصل شهادة غوركي إلى ذورتها حين تلخص اشعاع موقفه ورؤيته على ابداعه كنضال مستمر ضد الابتذال:
"ان قراءة اعمال تشيخوف تجعل المرء يحس كما لو كان في يوم حزين من ايام الخريف الاخيرة، حيث الهواء صاف، والاشجار العارية تبرز في وجه السماء في راحة وانطلاق، والمنازل المتزاحمة، والناس تغلب عليهم الوحشة والكآبة. كل شيء في غاية الغرابة، في غاية الوحدة، ساكن لا قوة له، والمسافات البعيدة زرقاء وخاوية تذوب اطرافها في السماء الشاحبة مضيفة برودة موحشة على الوحل الذي يكاد يتجمد. ولكن عقل المؤلف وكأنه الشمس تبزغ في الخريف فتنير الطرق الوعرة، والشوارع الملتوية، والمنازل القذرة المتزاحمة التي يعيش فيها الناس «البسطاء» الذين يستحقون الشفقة، يقتلهم الضجر والبطالة، ويملأون مساكنهم بلغط لا معنى له يخيم عليه النعاس. وهكذا تمضي قصة «الحبيبة» امرأة جميلة ذليلة عصبية كالفأر الصغير، تحب حب عبادة لا حد له، تلطمها على خدها فلا تجرؤ الجارية الوديعة على مجرد الصراخ. وإلى جانب هذه تجد أولغا المغرقة في الحزن في «الشقيقات الثلاث» فهي أيضا قادرة على الحب بغير حدود، تستسلم صابرة لنزوات زوجة شقيقها الكسول الحقيرة المبتذلة، وحياة شقيقاتها تتحطم من حولها، ولا تملك هي إلا البكاء دون ان تستطيع شيئا ودون ان يستيقظ داخلها مجرد كلمة احتجاج واحدة حية وقوية ضد الابتذال».
الوطن
28/01/2007