من يوميات عظم
عظام متكسرة ، بارزة ،، ولحم آيل للنفاد ،، وجه يكسوه التعب ،، وتحيطه الكآبة ،، سنوات عجاف من الهم والكمد ،، ألمت بصاحبة هذا الوجه الجميل ، وقضت على ما فيه من نضارة ، وما بثته في الناس من بهجة تبعثها تقاسيمه الرقيقة ،الهادئة ،شعر وخطه المشيب على عجل ،، وعلى حين غرة من صاحبته ، أتت السيدة على غير انتظار ، باحثة في العظام المتجمعة التي رميت هنا بغير اهتمام
نادت السيدة التي اعرفها تمام المعرفة :
- أكل هذه العظام جاء ذووها ؟
الصوت اعرفه تمام المعرفة ، طالما هدهدني ، وأنا طفل صغير ، اعتنى بي ، صبر عند مهدي باشا ، متحدثا باعذب الحكايات ، عل النوم يأتي الى عيوني التي تأبى مفارقة التدليل
سيدة تدل ملامحها ، على جمال أخاذ ، كان يثير الإعجاب ، في المشاهدين ، كنت انا انظر اليها ، مبهور برباطة جأشها ، وتحملها الصعاب ، وصرخاتي المتواصلة ، التي أصر على إطلاقها ، دون توقف ، ليأتيني ذلك الوجه الآسر ، الذي يرغمني على الصمت
تقلب السيدة ، ذات الجمال الآفل ، العظام بيدها ، تبحث عن عظام كانت ، تسعى الى إيجادها في هذه الكومة ، التي وضعت هنا ، بلا اهتمام ، أشفق لمرأى السيدة العزيزة ، وهي تحاول ان ، تجمع العظام على بعضها ، لتكون مخلوقا ، كان عزيزا على قلبها ، أثيرا على نفسها ،تسأل الرجل الواقف بالتياع :
- الا يوجد عظام غير هذه في مكان قريب ؟
يثيرني صوت السيدة ، الذي يبدو الرعب ، عليه واضحا ، وان حاولت جاهدة أن ، تخفي معالمه ، في نفسها المرهقة منذ زمان
صوت أخاذ جميل ، ينشد أغاني فيروز ، محاولا ان يحسن التقليد ، بنبرات مطمئنة ،عشقت ذلك الصوت ، كنت اصرخ باستمرار ، طالبا ان تأتيني ، صاحبته ، لتسمعني : تلك الأغاني الرائعة ، بعذوبة متناهية ،، يأخذني جمال الصوت ، الى عوالم من البهجة ، أتمنى معه ان يبقى ، محيطا بي ، لا يفارقني
تعود السيدة لتقلب العظام ، والتساؤل ، ينبعث قويا من نبرات صوتها ، الآخذة بالارتفاع
- أين وضعوا العظام الأخرى ؟
يرعبني الصوت المأسور بضعف ووهن ، لم أكن اعهده ، بتلك المرأة ، التي كنت واثقا ثقة تامة ، أنها قوية ، لا تعرف الخنوع ، ولكن الأيام تفعل فعلها ، في النفوس ، قبل الأجساد ، وتأتي بتغيرات لم نكن نظن انها تحدث بمثل هذه السرعة ، ويهذا الشكل العجيب
يعود صوت المرأة ، التي طالما أسرتني بحضورها الجميل ، الى التساؤل من جديد :
- الا تدري ، أخي ، اين وضعوا العظام الباقية ، لرفات الأجساد الأخرى ؟
اندهش للسؤال ، الا تدري السيدة العزيزة ، ماذا جرى ؟ عظام متفرقة ، لأجساد كثيرة ، تجمع أكواما أكواما ، على غير ترتيب ، في أماكن متفرقة ، استطاعت ان تعرف ذراعي ، من كم قميص ، كانت قد أخاطته لي ، بيديها الرقيقتين
يعود صوت السيدة ، التي كثيرا ما بهرتني ، بجمالها ، الى السؤال بلهفة المحتار ، من جديد
- هل يمكنك ان تدلني على الذراع اليمنى ، وعلى الساق اليسرى ؟
لقد نحرونا أيتها العزيزة ، ولم أكن اعلم ، أنني سأكون شاهدا على حيرتك سيدتي العزيزة ، تعبك ذهب سدى كما في كل مرة
الطفل يبكي بإصرار عجيب ، يبحث عن سيدة جميلة ، ذات منظر أخاذ ، تنشد له أغاني فيروز ، بابتسام ، وتحرص على ان يأتي صوتها جميلا ، كجمال صوت فيروز
تمسك السيدة العظام ، بيديها ، تحاول ان تجمعها بهيئة واحدة ، تدرك انها تفقد عظمين اثنين ، من العسير عليها ، ان تعيد تشكيل الجسد بدونهما ،، تسأل برغبة شديدة الا يأتيها الجواب الذي تحرص على تأخيره
- دلني ، أخي ، أين وضعوا العظام الأخرى ؟
عظامنا سيدتي دقوها ، نثروها ، مزقوها ، ثم جمعوها بغير عناية ، ولا انتباه ، في أماكن متفرقة
الطفل تغمره البهجة ، شرب حتى ارتوى ، لعبت وإياه السيدة ، لاطفته ، أسمعته حلو الأناشيد وعذب الأغاني ، بصوتها الجميل ، حتى اطمأن وعرف انه ملاك بهيج ، يغني للسماء مع الشحرور
تعود السيدة الى سؤالها الغريب ، ويبدو ان الرجل يأبى ، إشفاقا ،أن يطلعها ، على جوابه الصحيح
- قل لي ، أخي ، أين وضعوا العظام ؟ أريد الذراع اليمنى ، والساق اليسرى من جسد عزيز ، لأجمعها مع بعضها البعض ، ثم أدفئه في بيتي
الطفل يضحك ، تأخذه السيدة ، بيديها ، تأرجحه يمينا وشمالا ، وهو يكركر ، بصوت سعيد ، طالبا المزيد ، من اللعب مع السيدة الرقيقة
يسمع صوت السيدة ، ينبعث بهلع مكبوت :
لطفا ، أخي ، أريد الذراع اليمنى والساق اليسرى ، انه ولدي ، لقد عرفت أخيرا أنهم أعدموه ، وكنت أظن انه ما زال حيا يرزق
نفذوا حكم الموت بالآلاف سيدتي الحبيبة ، لم يتبق مني الا عظام نخرة ، أمي ، كيف يمكنك ان تجمعي العظام وهي رميم ؟
تهم السيدة بطرح السؤال مرة أخرى ، فلم يعد الرجل قادرا على الاحتمال ، بعد زخات من الأسئلة المتدفقة ، التي تلقيها على عاتقه ، تلك السيدة العزيزة ، يجيبها بانفعال :
- سيدتي ، لم تبق فينا عظام ، تهرأ كل شيء فينا ، أصبحنا رمادا تذروه الرياح
صبيحة شبر