الانسانية والتحرر
في الشعر الفلسطيني المقاوم
حسن الباش
لم يكن وجود الشعر الفلسطيني المقاوم وجودا مغلقا أو مقوقعا، بل انه انطلق ليبشر بإنسانية هذا الأدب وعالميته، ولعل ما يجعله ينطلق نحو الإنسانية الإيمان الملتزم بأن قضايا التحرر في العالم هي قضايا واحدة ترتبط فيما بينها برباط الحرية.. والالتزام بحد ذاته حدد للشاعر الفلسطيني المقاوم ملامح وجوده في وطن تربطه بالعالم قضايا تحررية معينة. ولهذا وجد نفسه محاطا بعالم يخوض أقسى المعارك والتجارب الثرية، ومن هنا نجده ينخرط انخراطا عمليا في قضايا التحرر. وبعد ذلك لا عجب أن نجد الإنسان الفلسطيني يقاتل في صفوف الثورة الفيتنامية أو في صفوف الثورات الأفريقية المتلاحقة ولا عجب أيضا أن نجد الياباني يحارب في صفوف الثورة الفلسطينية ، فحركة التحرر حركة واحدة، الجرح إذا نزف في فلسطين فان الدم يسيل في أفريقيا أو في أي بلد يقوم بحركته الثورية من اجل التحرر.
ولو تفحصنا نصوص الشعر الفلسطيني المقاوم لوجدناها تمتلئ بمعاني المواقف الإنسانية التي تتم عن نظرة الشاعر ورؤيته الجديدة للعلاقات التي تربط العالم ببعضه. وتدخل هذه القضية ضمن ملمح من ملامح هذا الشعر هذا الملمح يمكن أن يدرج تحت قضية يسارية الأدب الفلسطيني اليسارية التي نفهمها نحن. أي الانطلاق من الوطن الى القومية الى الإنسانية. فالالتزام بقضايا التحرر العالمية بعد عملا مميزا في أدبنا. فهو موقف مبدئي وليس موقفا مرحليا تقتضيه الظروف واشكالاتها بل تقتضيه قضية أساسية وموقف ملتزم موقف استراتيجي تحكمه أهداف إنسانية كبرى لا يمكن الانحياز عنها أو الخروج عن خطها المبدئي وهكذا فهم شعرنا الفلسطيني المقاوم كلمة الشعر. فهي لا تعرف معنى غير معنى النضال ولا تفقه لغة غير لغة الإنسان كانسان إنها خلفية فكرية تحررية تجعل من الحرف انفجارا مدويا في شتى أرجاء البقاع.
نرى مثلا كيف نظر الشاعر الى حركة التحرر الأفريقية المناضلة ضد العنصرية. لقد نظر الى الصهيونية وعراها فوجدها حركة عنصرية تتسم تطلعاتها مع تطلعات العنصرين في أفريقيا، إذا فالشعب المضطهد واحد والحركة العنصرية واحدة والنتيجة أيضا نضال مشترك ضد هذه العنصرية هنا وهناك يقول حنا أبو حنا، موضحا إنسانية أدب الأرض:
هناك لي أخوة في الكفاح
يفيضون طوفانه بأس عنيد
لتغسل أفريقيا من آثام الغزاة
وغدر العدو اللدود
هناك في كل أرض وشبر
بريق نضال
هناك في كل شبر جراح
وانه ثكلى وقبر شهيد،
وبتغني الشاعر الفلسطيني بأناشيد الثورات في العالم فيرى مثلا إن استقلال كوبا ما هو إلا نصر لشعوب الأرض التي تقدس التحرير، ويدخل المعاني الثورية الوطنية ليوحي بها الى قضية النضال الشعبي الفلسطيني ضد الاحتلال فالإصرار على النضال والصمود قضيتان أساسيتان في حياة الشعب وحريته يقول الشاعر نفسه حنا أبو حنا:
لن نلين
دون حريتنا عصف المنون
في هفانا
كان في الليل مع الانسام يسري
يا حفيدي يا ابن كوبا الثائرة
لن نغطي الفجر كف غادرة …
يا حفيدي نم
فعينا والديك لن تناما
نرصدان البحر والجولكي
لاتضاما
ولنلاحظ أن موقف الشعر الفلسطيني المعاصر لم يكتف بالغناء من اجل الثورة بل حرض عليها في بلدان العالم الامبريالي . مؤكدا ان الظلم الذي يلقاه ابن امريكا الفقير ماهو الا ظلم الامبريالية لكل الشعوب ولذا نجده يقف موقفا حازما حتى من القضايا الاجتماعية التي يعيشها ابناء الشعوب في كثير من اقطار العالم.
يقول سميح القاسم في قصيدته القارة المجهولة.
من اين يبلغك الطريق
من اين احياء شيكاغو الفقيرة
من اين تبلغ جذوتي
ليكود ميلاد الحريق
وينتقد الانظمة الامبريالية انتقادا واقعيا حيث بين مقاصد تلك الانظمة وبالتالي يحرض الشعب على الثورة ضد كل النظم المستغلة:
يا ناطحات السحب يا اكداس اكواخ حقيرة مدي يديك من الظلام
فان رايتنا الكبيرة
ابدا يشع حنينها لمجاهل الليل العميق ويربط الشعر الفلسطيني المقاوم بين التقدم المادي للحضارة المزيفة وبين قهر الشعوب.فكل شبر يزرع في أمريكا فهو على حساب قتل فيتنامي، وكل حجر يعمر في واشنطن يعني تهديم منزل في فيتنام ونحس بان هذا الربط قد اعطى الشعر قيمة كبرى لا سيما وان اساليب الشعراء اعتمدت على المفارقات الموضوعية والتناقضات الاجتماعيةوالسياسية بين الشعوب يقول سميح القاسم مخاطبا واشنطن :
من اين؟
في فيتنام مذبحة وانت تصدرين
كعكا وادوية الى القمر الحزين
وتكنسين على دم الجرحى الزبالة
وحين نحصر القضايا العالمية التحرية ونعددها فاننا واجدون الشعر الفلسطيني المقاوم أكثر الاداب تعاطفا معها بل ان كل قضية من القضايا كانت تدخل ضمن تفكير الشاعر وتخرج في شعره على شكل رؤى مستقبلة تتلاحم فيها المصائر لدى الشعوب، ويمكن ان يدخل في هذا النطاق اعتذار الشاعر الفلسطيني بابطال الثورات العالمية الوطنية التحررية وتقززه من وحشية الامبريالية العالمية ـ تعاطف الشاعر الفلسطيني مع شعب هيروشيما وندد بالامبريالية، وجد في ثورا الفيتكونغ شعلة حرية ونضال ولم يترك أي جانب من جوانب القضايا الاخرى. يرى في حديثه عن رجالات الثورات تجسيدا للثورات نفسها ومعنى من معاني نضال الشعوب يقول سميح القاسم في (الى بول روبسون مبينا نضاله في سبيل التغيير والحرية):
من اقصى اطراف الدنيا
ينهل غناؤك في بيتي
ويرفرف في قلبي
عصفورا أسمر منفيا
يا فاضح جور الإنسان على الإنسان
ويمكن ان نرى تعاطف الشاعر مع قضايا العالم رؤية اخرى أي ان الشاعر الفلسطيني كان بتعاطفه هذا يحرض على الثورة ضد المحتل، وفي ذلك تكمن قضية استغلاله للمعاني غير المباشرة التي تؤدي الى التغيير. وغالبا ما كانت هذه هي المهمة التي حاول من خلالها الاديب القاء الضوء على ثورات العالم التحررية وبالتالي ومن خلالها التحريض على الثورة والتمسك بالتعاليم الثورية العالمية ونماذجها بالتعاليم القومية العربية والوطنية الفلسطينية . نجد مثلا قول سميح القاسم: الى أوري ديفز. مؤكدا امتزاج النضال ضد العنصرية الصهيونية ـ والامبريالية
في كفي دفء من كفك
في قلبي صوتك (اني في صفك)
وهتافك (اني معكم يا اخوتي الشرفاء)
قسما بالشمس
معا سنفك من الاسر الدامي الشمسا،
ويمتزج المعنى الانساني بقضية حساسة حيث نرى ان شعر المقاومة لا يجد حرجا في ان يبين ان النضال قد يقوم على اكتاف اليساريين من اليهود والعرب ضد دولة عنصرية هي إسرائيل . وقد تجلى هذا الامر في كثير من المواقف التي التزمها الشاعر الفلسطيني المقاوم في الوطن المحتل، والتعاطف هنا لا يقف عند حد. بل يتسع ليشمل التعاطف مع يهود العالم الذين تحاول الصهيونية اغراءهم واضطهادهم على ايدي طغمة عسكرية عنصرية معروفة.
ان شعرنا الفلسطيني المعاصر، قد قدم ضمن نظرته الانسانية نماذج من شعره تمتلئ معانيها انسانية وتمتزج فيها قضايا النضال العالمية امتزاجا كاملا. ويمكن ان نقول في ذلك ان الشعر قدم لوحات الإنسان وتجاربه الثورية النضالية أينما وجد وكيفما ناضل. واعتبر بذلك رائدا انسانيا مقاتلا من أجل كرامة الإنسان وحريته مدافعا عن حق الإنسان كانسان في البقاء ضمن انسانية خيرة وليست جائرة.
الطلائع العدد 265 تاريخ 6/12/1977