تاليف: Robert Irwin
مراجعة : صلاح نيازي
ربّما يُعدّ هذا السفر، من أمتع، ومن أعمق ما أُلّفَ عن الأدب العربي باللغة الإنكليزية. أما طريقة المعالجة فجديدة كلّ الجدّة قد لا نجد لها مثيلاً في التآليف العربية من حيثُ جمعُ المادة وعرضُها وتحليلها. استلهم المؤلف عنوان كتابه، (مع تقديم وتأخير) من شطر للمتنبي :"الخيل والليل والبيداء".. وهو يعالج الأدب العربي من القرن الخامس إلى القرن السادس عشر. هذه لا ريب مساحة كبيرة يصعب تحقيقُها حتى على المتخصّصين من أبناء البلد، فكيف بأجنبي؟ لا بدّ أنّ مهمّته كانت عسيرة بالضعف. مع ذلك طلع علينا روبرت أروِنْ، بتأليف هو في غاية المتعة والفائدة. ما سرّ فرادة هذا الكتاب، في تقانته ام في استنتاجاته؟ ما الفرق بينه وبين التآليف العربية التي هي على هذه الشاكلة؟ لكنْ قبل ذلك لنتعرّفْ على المؤلف وعلى هيكليّة الكتاب.
درس روبرت إروِنْ التأريخ المعاصر في جامعة أكسفورد، ثمّ قام بتدريس تأريخ العصور الوسطى، في جامعة أندروز، كما درّس اللغة العربية، وتأريخ الشرق الأوسط في جامعات مختلفة.
نشر إرون عدّة كتب ، منها : "الشرق الأوسط في العصور الوسطى"، و "ألف ليلة وليلة" و "الفنّ الإسلامي"، بالإضافة إلى ذلك فإن إرونْ روائيّ نشر لحدّ الآن ستّ روايات. هكذا جمع المؤلف، نظريّاً في الأقلّ، بين الباحث الأكاديمي الصبور، وبين المبدع الجريء. كيف ظهرت هاتان الروحان المختلفتان في هذا الكتاب؟ قبل أن نستطرد قد يكون من المفيد بسط بعض الحقائق. أوّلاً؛ إنّ هذا الكتاب معدّ لقارئ إنكليزي. لكنْ ما يهمّنا بالإضافة إلى نظراته الثاقبة فعلاً، هو كيف نظر أجنبي متخصّص إلى أدبنا، وما الذي اختاره ولماذا؟
يمكن القول إنّ روبرت إرونْ من القلة من المستشرقين الذين أحبوا الأدب العربي القديم، فجعله في مصاف الأداب العالمية. نقرأ على الغلاف مثلاً؛ تعريفاً بالكتاب كما يلي :"على الرغم من أنّ أعظم الشعر والنثر في العالم مكتوب باللغة العربية إلا أنه غيرُ معروف بالدرجة التي يستحقّها...".
المؤلف كذلك، مطّلع آطّلاعاً مدهشاً، لا على الأدب العربي ، شعراً ونثراً، وفلسفة وتأريخاً خالصاً فقط، وإنّما على الآداب الإغريقية والرومانية والأدب الاوروبي لا سيّما في العصر الحديث مما يجعل لدراساته المقارنة أبعاداًPolymath الوسيط . هذا مؤلف متعدّد الجوانب الثقافية ثقافية مقنعة. من هذه الإشارات ما ذكره المؤلف عن استشهادات "دمنة" بالأمثال التي تدعو إلى الفضيلة، وعن الحكايات ذات المغازي ومقارنتها بأقوال بولونيوس في مسرحية هاملت، (رغم ما في الشخصيتين من آختلاف، ذلك لأنّ شيكسبير كان يرمي من وراء تصوير شخصية بولونيوس إلى عقم ما كان يستعمل من تعابير بلاغية، وعلى ثقل دمه ودمها).
هذا مَثّلٌ آخر: نقل المؤلف عن مترجميْ كتاب ابن المرزبان إلى الإنكليزية "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" ما لاحظاه من تشابه لإحدى حكايات هذا الكتاب، بحكايةٍ رُويَتْ في القرن الثالث عشر بويلز عن الأمير "لولين"، وكلبه. فحينما عاد لولين من الصيد في أحد الأيّام، رحّب به كلبه وكان متسربلاً بالدم فظنّ أنّه قتل آبنه الرضيع فقتله. لكنّه آكتشف أنّ ولدَه لم يُصَبْ بأذى، وأنّ الدم الذي كان على الكلب إنّما هو دم الذئب الذي أراد الفتك بالطفل. (ص206)
يخبرنا المؤلف أيضاً، أنّ حكاية "حيّ بن يقظان" الفلسفية لابن طفيل، كانت قد ترجمت إلى الإنكليزية، ونُشِرت عام 1708. يظن المؤلف أنها قد تكون من المصادر التي أوحت لدانييل دفو في كتابة حكايته الشهيرة "روبنسون كروزو" التي نشِرت عام 1719.
أكثر من ذلك يلاحظ المؤلف أنّ طريقة التأليف لدى آبن عربي، وهي تعتمد أكثر ما تعتمد على الإلهام، ليست بعيدة كما يبدو عن الكتابة اللاإرادية:
التي اعتقها السرياليون في العشرينيات من القرن الماضي. (299).Automatic writing
قبل أن نتعرف على الهيكل الذي صيغ به الكتاب، لا بدّ من التعرّف أوّلاً على الأسئلة التي دارت في ذهن المؤلّف وحاول الأجابة عنها.
طرح إرون في المقدمة جملة من الأسئلة على نفسه: كيف كان يُلقى الشعر والنثر، وكيف كانا يُدونان؟ ما هي مصادر الإلهام الأدبي، كما كان يُظَنّ؟ ما هي الأساليب وإلى أية درجة أُرهقت بالقواعد والقوانين؟ ما هي مجموعة قوانين النقد الأدبي العربي التقليدي؟ وكيف تطوّر الشعر والأدب ما بين القرنين الخامس والسادس عشر؟ مع ذلك فقد جاء هذا الكتاب : الخيل والليل والبيداء" أغنى بكثير من مجرد الأجابة عن تلك الأسئلة.
قسّم المؤلف الكتاب إلى سبعة فصول بالإضافة إلى المقدمة: وهي على التوالي: الشعراء الجاهليون، القرآن، ثقافة البلاط (من القرن السابع إلى القرن الثامن)، آفاق أوسع ( من900 - 1175) ممالك العرب المفقودة: الأندلس، والعبوديّة والعظمة العسكرية.
مع أنّ هذه التقسيمات اتخذت صفة المراحل الزمنية، إلاّ أنّهاابتعدت ،وهذه نقطة جديرة بالاهتمام، عن النسق الأكاديمي الذي تعوّدنا عليه كالأدب الجاهلي، الأدب الإسلامي، الأدب العباسي..إلخ. أيْ أنّ المؤلف لا يظهر وكأنه يقود قارئا جاهلاً أو أعمى، بل يدعوه للمشاركة في هذه الحديقة المسحورة.
قلنا إن روبرت إرونْ أكاديمي بقدر ما هو روائي. يبدو أنّ روح الروائي هي التي جعلته ينظر إلى الأدب وكأنّه كتلة واحدة وإن تعددت مراحلها. بكلمات أخرى ليس هناك تقطيع أو حِقب، وكأنّ كلّ مرحلة أدبية، قائمة بذاتها، ولا علاقة لها بما قبلها أو ما بعدها.
التقسيمات الأدبية كما عرفناها سابقاً، خضعت أو سمّيت بأسماء المراحل السياسية والاقتصادية. على هذا النهج دأب مؤرخو الأدب والإنكليز على حدّ سواء، إلا أنّ الطريقة التي استنّها ونهج عليها روبرت إرونْ أقرب إلى واقع الأمور. فقصيدة لامرئ القيس مثلاً لم تلد من لا شئ أوّلاً، ولم تكنْ حبيسة زمانها، أي انقطعت، مع انقطاع العصر الجاهلي سياسياً، بل ظلّت بذورها تنمو وتنمو إلى يومنا هذا. ينطبق الأمر على أي نصّ آخر أصيل. الفن عموماً عملية لا تنقطع من التلاقح والتناصّ.
مما ساعد المؤلف في ابتداع هذا النهج هو اوّلاً نظرته الشاملة:
، وقدرته على اكتشاف صلة الرحم بين الأجناس الأدبية بالإضافة إلىBirds’ eye view
موسوعيته المعرفية و طبيعته الروائية الإبداعية، وليس هذا بقليل بأيّ معيار. باختصار إنه نظر إلى نفسه كقائد موسيقي يستشرف الآلات الموسيقية ويعرف دقائقها. الأدب أمامه اوركسترا تتداخل فيها الأصوات.
تتبع المؤلّف تطوّر الأدب العربي (وإن كان قد ابعد الجوانب السياسية والاقتصادية) في العواصم التي استأثرت بالسلطة، فمن صنعاء إلى مكّة والمدينة، إلى دمشق، إلى بغداد، وأخيراً إلى الأندلس. هذه الطريقة وإنْ كانت معقولة، على أساس أنّ مراكز السلطة المركزية تجتذب إليها عادة، أهمّ الأدباء والفنانين، إلاّ أنها قد تهمل في الوقت نفسه، أرباب الفكر الذين يعيشون في الأطراف، وهذا عين ما حدث في هذا الكتاب.
مهما دار الأمر، وضع المؤلّف تلك الفصول تحت خطة محكمة تكاد تكون واحدة. كلّ فصل يبدأ بمقدّمة توضيحية تأريخية، أو أدبية، أو فلسفية حسب مقتضى الحال، ثمّ يسرد حياة مَنْ يمثلون تلك الفترة، وبعد ذلك يورد النصوص.
لا يكتفي المؤلف بذلك، بل يسعى إلى شرح ما قد يكون عويصاُ عسراُ. بعد كل هذه يأتي، وهو الأهمّ، تعليق المؤلف وتحليله، وفيهما تظهر قابليته على الاستيعاب والاستنتاج وهما على أشُدّهما وضوحاً وعمقاً. في الواقع تشكّل آراؤه وحدَها كتاباً خاصّاً، نافعاً وممتعاً.
لإعطاء القارئ نموذجاً من تلك الآراء، ناخذ لا على التعيين ما كتبه المؤلف عن الانتحال مثلاً (27 -28) أثناء حديثه عن لامية الشنفرى الشهيرة. ذكر المؤلف أنّ دي. أسْ Plagiarism مارغوليوث الذي كان بروفسور اللغة العربية في جامعة اكسفورد، نشر مقالة عام 1925 زعم فيها أن كل الشعر الجاهلي ملفّق. بعد ذلك بعام نشر طه حسين كتاباً عن الشعر الجاهلي، طارحاً فيه نفس الرأي.
يعلّق المؤلف : "إنّ كلا الرأيين متطرفان". عندئذ يتخذ المؤلّف من الشعر الجاهلي موقفاً يبدو مقنعاً. يقول :"مع ذلك حتى لو كنّا نتعامل في بعض الأحيان مع دجّالين، إلاّ أنّ ما لفّقوه يتطابق مع أعراف الكتابة قديماً تطابقاً أميناً، وما همّ إنْ كان منحولاً كما يزعمان أمْ لا، إذ هناك كثير من الأشعار، هي قطع فنّية بحدّ ذاتها".
لا ندري هل صدر هذا الرأي عن كون المؤلف روائياً، أم عنه أكاديمياً؟ ما همّ. إنه رأي طريف يستحقّ العناية.
من نظراته الأخرى، ما ذكره عن الأديب والمؤرخ مسكويه صاحب كتاب : تجارب الأمم، فقد اعتبره مؤرِّخاً عالمياً حتى تأريخ 980 م. قال عنه : "اعتبر مسكويه التأريخ مصدراً للرسالات الأخلاقية، ومرشداً للحياة. كيف يجب أنْ تُحكم المدن؟ كيف يمكن إحراز السعادة؟ كيف يلزم المرء تحضير نفسه للموت؟ كان مسكويه يكره التأريخ غير التاويلي، وحينما جاء ليراجع ما كتبه أسلافه، اشتكى من أنّها محشوّة بالمعلومات، وهي مثل القصص والخرافات التي ليس فيها نفع، سوى أن تجعل قارئها ينام". (211).
على هذه المثابة، نذكر أنّ المؤلف اعتبر ابن سينا من الفلاسفة الأوائل الذين استفادوا من الفنّ القصصي والروائي كوسيلة للتعليم. يقول إرْوِنْ بعد أنْ يلخّص كتابه : حيّ بن يقظان :"هناك خاصيّةُ روايةٍ علميّةٍ خيالية، في بعض ما كانت تصفه تلك الحكايات". هكذا يكون ابن سينا بناء على هذا الرأي، من أوائل كتّاب الرواية العلميّة.
عموماً يبدو أنّ ريادة كتاب روبرت إرون، تتمحور في إعلاء شأن النثر العربي، فهو من ناحية جعله في مصاف الشعر من حيثً الأهميّةُ، ومن ناحية أخرى توصّل، بصورةٍ يُغبَط عليها، إلى بدايات القصّة والرواية في الأدب العربي. يذكر المؤلف على سبيل المثال ابن سنبل بالإنكليزية) صاحب كتاب : الانفصال. Zumbul) يقول المؤلف " أدرج العلماء هذا الكتاب في باب التأريخ. إنّه في الواقع من أوائل نماذج الرواية التأريخية"
مهما دار الأمر، هذه الطريقة في دراسة أدبِ أُمّةٍ ككتلة عضوية واحدة ولكنّها متفرعة لا تخلو من طرافة ولكنها ، في الوقت نفسه لا تخلو من مخاطر. فالنظريات مهما كانت معقولة ومنطقية ،إلاّ أنها مقيّدة للعفوية والانسيابية.
ربما لهذا السبب اختزل المؤلف كثيراً من الأسماء والحركات الفكرية التي تُعتبر علامات فارقة، ومنعطفات أساسية في مجرى الأدب العربي. لم يجدْ بعضها حيّزاً، أو وجد حيّزاً محدوداً في هذا الكتاب. ( ربما عذره أن الكتاب معني بالقارئ الإنكليزي). على سبيل المثال، لم يذكر المؤلف معلّقة طرفة بن العبد، بينما توسّع في معلقة آمرئ القيس. أوجز القول في المتنبي، بينما أفاض في الحديث عن أبي تمّام، وابن المعتز. تجاهل الكندي، وأسهب بالحديث عن ابن سينا. لا بدّ أنّ لدى المؤلّف أسباباً أخرى.
لكن من المعقول أن نفترض أن المؤلف كان ينشد النموّ والتطورفي الأدب والفكر. كان يرصد ما الذي أُضيف من شئ جديد إلى التراث. إذا صحّ هذا الافتراض فإن المتنبي كان تتويجا لما سبقه من شعر، بينما ابن المعتزّ جاء بنظرية نقدية جديدة، وهذا سرّ الاهتمام به أكثر. ينطبق الأمر نفسه على أبي تمّام، لأنّ في شعره تطبيقاً عمليّاً لعلم البديع. ربما لهذا السبب أيضاً، اهتمّ بالشنفرى - رغم صعوبة قصيدته - على حساب شعراء صعاليك آخرين. عند التمعّن في الأمر، نرى أنّ الشنفرى شكّل انعطافة جديدة، في الشعر وأن قصيدته اللامية الشهيرة، تخلّصت من كثير من الزخارف التقليدية للقصيدة القديمة. تخلّصت كذلك من النسيب ومن مشاقّ الرحلة والسفر. ربما اعتبر المؤلف هذه القصيدة وحدة موضوعية على غير ما هو مألوف في الأشعار القديمة. الجبل في هذه القصيدة وليس الصحراء هو مسرح الأحداث. كان الشاعر " يعيش في تلك الجبال عيشة متوحشة لا تختلف كثيراً عن الحيوانات الي كان يصيدها." على هذه المنسوقية كان المؤلف يعالج أدق المسائل الأكاديمية بروح الروائي المبدع. مع ذلك فما يبعث على الاستغراب، أن المؤلّف لم يُعطِ إلاّ حيّزاً قليلاً ومشوشاً عن مسرح خيال الظلّ لمحمد بن دانيال. بالإضافة إلى ذلك أهمل المؤلف دور الصليبيين في نشر الثقافة العربية في الغرب، معتبراً "أنّ اسبانيا كانت أهمّ بكثير" (ص 313)
الكتاب، مع ذلك مستنبت عجيب للحركات الأدبية والفكرية ، وكيف تطورت. على هذا تابع المؤلف الحداء وكيف تطور إلى الموشح. وكيف استحالت الصور الصحراوية إلى حدائق أندلسية. كيف انتقل التأريخ الشفاهي إلى تأرخ تدويني أوّلاً ُثمّ إلى مرحلة تحليل التأريخ. هكذا أخذ بأيدينا المؤلف من الناقة، يوم كانت مركبة ووليمة في الصحراء، إلى الإنسان نفسه، ولا سيّما المرأة في العصر الأموي، ثم إلى الجواري في العصر العباسي..أما في الأندلس فبقيت النوق والصحراء وما إليهما مجرد زخارف شعرية.
هذا الكتاب تأليف فريد. سياحة فكرية جادّة تتنافس فيه روح الروائي الإبداعية مع روح الأكاديمي التكريسية.
عن المدى