مقاومة الموت بالإصرار على الحياة فى ديوان " بنحب موت الحياة" للشاعرعزت ابراهيم"
بقلم:سمير الأمير
لو افترضنا أنه لا دليل على الشعر أفضل مما كتبه الشاعر عن شعره فأننا سنضطر هنا أيضا كما سبق فى قراءتنا للديوانين السابقين أن نـتأمل كلمات الأهداء ، يقول عزت"" إلى من علمنى .. كيف أحيا وأنا فى لحظات الموت.. أبى ، إلى من علمتنى كيف أموت ليحيا غيرى.. أمى""
يمكننا إذن أن نقرأ قصائد الديوان عبر مفتاحين أساسيين هما:- الحياة فى مواجهة الموت ، والموت من أجل أن تستمر الحياة بمعنى آخر التضحية من أجل أن يحيا الأخرون.
فى قصيدة "رؤيا" وهى ثانى قصائد الديوان، يستدعى الشاعر حادثة دنشواى عبر مفردات المشنقة/ البرج/ العسكر/ الحمام / الجرن، تلك المفردات التى يعتمدها الشاعر دليلاً على حالة الموت والتى تلقى بظلها على مخيلته وهو فى الطريق إلى القاهرة فتصيبه بحالة عجز وغباء أمام أسئلة ربما تبدو بسيطة مثل( الواحد فى كام بيساوى كام؟/ والسكة لوتبدأ منين بتروح لفين؟) وعندما يصل لا يجد القاهرة ولكنه يجد أشباه بشر ويجد الميدان( محبوس فى أوضه صغيرة) هنا أمام تلك الحالة /الموت ماذا يفعل الشاعر يقول عزت( فكرت اكون اللى اختفى تحت الهدوم/ يمكن فى لحظة صدق يتحول/ لإيد/ تقدر تشد القاهرة/
ماالذى اختفى تحت ملابس البشر ؟ ربما كانت الحياة الحقيقية بما أن ماسبق لم يكن سوى الموت أو ربما كان الصدق والعالم الحقيقى الذى اختفى تحت ركام اليفط والحروف المكتوبة عليها التى تخطف من الناس أعينهم وأرواحهم .
وفى قصيدة( الحصان- اسم جديد للحياة) سنجد أيضاً أن الشاعر مازالت تسيطر عليه ثنائية الموت والحياة، يقول الشاعر( دوامة بتشد الزمن/ تحدف سنابل عمرنا/ جوه القدوس/ تطحن تروس التوهة فى عضامنا/ ما نحس الا ودمنا بيسيل/ يادى الحصان اصهل/ ويممنى تجاه النور) ومثل هذا النوع من القصائد- المبنية على المقابلات الواضحة بين ضدين حيث تسيطر الغنائية- شكل جزءاً كبيراً من مجمل الشعر العامى فى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات وربما كان عزت متأثراً بهذا الشكل الذى سيطر على قصائد العامية ولا سيما القصيدة الوطنية فنحن نستطيع أن نضع كثيراً من مفردات القصيدة فى جدول من حقلين اثنين كما يلى على سبيل المثال لا الحصر:-
المفردات الدالة على الموت والهزيمة المفردات الدالة على الحياة والمقاومة
تطحن- تروس-دمنا بيسيل-القبر- الوداع- دوامة-آخر سكتى- التوهة- القدوس الحصان- اصهل- الشمس- الشعاع- النور- فرح-جناحاتك- الحمام- الأمل
وفى القصيدة التى تحمل عنوان الديوان ( بنحب موت الحياة) نشعرأن هناك نوع من الارتباك، إذ يوحى العنوان بالمعنى الشائع فى التعبير الشعبى ( بحبك موت= بحبك قوى) ولكن الشاعر يأخذنا لتفسيره الخاص للعنوان فيقول:- (بنحب موت الحياة/ يعنى الحياة الموت/ مش يعنى إن الموت جميل جدا/ فنحب بيه الحياة/ لأه/ الموت ساعات بيكون خلاص م الموت) هل يمكن الأن أن نفهم ماذا يقصد الشاعر؟ -( وانا كنت ميت/ يوم ما كانت "ساره" بتفرفر من الحمى/ وانا جيبى ابيض زى عقل " إيمان")
واعتقد أن هذه هى البداية الطبيعية للقصيدة بما أن تبريره للعنوان لم يضف للمعنى بل أربكه
من الواضح هنا طبعاً أن سارة هى طفلته وهو يعبر عن مشاعر الأبوة تجاه ابنته التى ألم بها مرض.
ومن الواضح أيضاً أنه لم يكن ميتاً لا بالفعل ولا بالمعنى وأنه لو التزم باستخدام التعبير الشعبى( ميت فى جلدى) لعرفنا أن الموت هنا لا يعنى سوى الخوف الشديدعلى ابنته وهو بالتأكيد مايتسق مع الموقف،
وفى قصيدة "إيه اللى خلانى أخاف منى؟" وهى من القصائد البديعة إذا استثنينا نهايتها، يقول الشاعر فى مطلع القصيدة؛-(تلاتين غيار داخلى/ تلاتين بيجامة نوم/تلاتين شراب/ تلاتين مداس/ تلاتين سنه/ما عرفش ليه كل اما احسب عمرى/ أحضن جزمتى/ وبقول هبى شوز داى تو يو؟
هنا فى عالم الحرمان لا تحسب دلالة الوجود سوى بالامتلاك ومن منا يمكن أن ينسى فرحته( بالمداس الجديد)، إن الاحساس بالوجود يختصر فى موضوعة امتلاك ما يجب أن يشكل الحد الأدنى أو ما نسميه الكفاف ولكن الفقر يحول هذا الكفاف إلى حلم فيختصر أمل الفقراء أيضاً، لكنه وقد كبر تحت وطأة الحاجة يكتشف أنه لايعرف من هو بعد أن فعل به الزمن/ الفقر فعلته إذ لم يمكنه من تأمل ذاته ومداواة الندوب التى كان يعيش ذاهلاً عنها بل ربما لم يشعر أساساً بها إلا عندما داهمته وهو فى سن الثلاثين(أنا مش مصدق إن أنا/ لأ مش أنا/ لأ ده أنا/لأ../ مالى؟؟/ إيه اللى خلانى أخاف منى/......../ أنا باين اتجنيت لا بدون عواطف كنت /ولا بالعواطف حييت/) إلى هنا والرؤية تبدو متسقة لكننا فيما بعد سنلمح تناقضاً على مستوى الرؤية عندما يقول( دا القلب فاضى ما فيهش/غير نشرة الأخبار/ وجشاعة التجار/ وحوادث الانتحار/ وتلامذه ناجحه بغش/ طب ليه انا ما انتعش؟) من المؤكد أن القلب الذى يحمل كل تلك الهموم ليس قلباً فارغاً كما يقول الشاعر ولكننا مستعدون لقبول ذلك، إذ من الممكن تبريره برغبته فى السخرية ولكن سؤاله الأخير( / طب ليه أنا ما انتعش؟/) لامبرر له اطلاقاً فى السياق ، إذ أن سبب عدم انتعاشه هو كل ماسبق أى( نشرة الأخبار وجشاعة التجار وحوادث الانتحار) وبالتالى فإن المفارقة التى حاول الشاعر صنعها لينهى بها قصيدته جاءت مدفوعة بإغراء القافية ولم تحدث على مستوى المعنى، والحقيقة أننى لاحظت تلك الإشكالية فى بعض القصائد الأخرى فى الديوان فمثلاً فى قصيدة( مسالك/ مسلك أول) وهى أيضاً من القصائد ذات البدايات القوية يقول الشاعر(فرغت كل اللى انكتب/فوق الورق عنى/فى برطمان الحبر/ وحفرت لحروف الكلام/ اللى اتنطق منى/ وسط المدافن قبر/ وكسرت ألواح العجين /وسنين تلوك فى الصبر/ وعرفت إن الحق مش فى الشق) إلى هنا والكريشندو متصاعد وصولاً إلى المعرفة التى جاءت بعد كل ما سبق من معاناة ومن ثم تتوقع الأذن أن ما يأتى لابد ,ان يكون قوياً ومدوياً لكنه على عكس ما بشرنا به يقول منهياً القصيدة( الحق/ إنى أموت /يا عيش بالزق) وهنا طبعاً يقفز إلى أذهاننا التعبير الشعبى( ياعم ودى عيشه داحنا عايشين بالزق) ولا يمكن أن يكون هذا هو المعنى الذى كان يسعى إليه الشاعر، إذ من المؤكد أن سياق القصيدة يطرح شيئاً مختلفاً وهو مثلاً( يا نعيش بحق يا نموت أحسن من العيشه الزق)
على أية حال لا شك عندى أن ديوان عزت ابراهيم( بنحب موت الحياة) ديوان جدير بالقراءة و ليس من نافلة القول أن القصيدة الأخيرة( آخر كلام) كانت ختاماً موفقاً إذ حملت رسالة العنوان وأكدت على أهمية التشبث بالحياة الذى لا يعنى بالضرورة إلا الاستمرار والمقاومة.
( فما تسمحيش/ للخوف يعشش فى الحشا/ وادينى صبرك/ لم أيوب ابتلا/ يا ناعسه/ وانتى مصحصه/)
وفى نهاية القصيدة يقول الشاعر:-
آخركلام/عكازى مش لازم يخاف/عكازى مش لازم ينام/