أبو الحسن الحصري القيرواني
خيّم الظلام وكأن جنيَّة الليل حلت ضفائرها ونشرت شعرها الحالك على مدارات النجوم، وسكن الليل وعادت الطيور إلى وكناتها، ولملمت الشمس أذيال الغروب واختفت وراء الأفق، وراح القمر الكسول يطل خجولاً من بين الغمام، ولكنما العاشق الولهان وحده يراقب النجوم ويرعى قطعان الذاكرة في بيداء روحه، ويلهث وراء غزال شارد، فتضيعه الطرقات.
(ليل الصب) قصيدة تنساب كجدول رقراق يتهادى بين الصخور ينبع من صميم قلب الشاعر أبي الحسن القيرواني الذي هجر قيروان إلى الأندلس حيث يكمن الجمال في طبيعة خلابة تسبي العقول وتذهل الأبصار، إلى أن توفي عام 488 هـ. بطنجة.
فتعالوا نعيش ليلة من ليالي العاشق الصب مع هذه القصيدة التي عارضها أكثر من شاعر كان آخرهم أحمد شوقي.
ومن جماليات هذه القصيدة أنها جاءت من بحر الخبب الذي يتميز بالخفة والسرعة، وهذا يجعله لا يصلح إلا للإغراض الخفيفة الظريفة وللأجواء التصويرية التي يصح فيها أن يكون النغم غالباً فكأنما النغم يقفز من وحدة إلى وحدة راكضاً كالخيل.
يا ليلَ الصَّبِّ متى غَدُهُ؟
أقِيامُ السَّاعَةِ مَوْعِدُهُ؟
رَقَدَ السُّمَّارُ فَأَرَّقَهُ
أَسَفٌ للبَيْنِ يُرَدِّدُهُ
فَبَكاهُ النَّجْمُ ورَقَّ لهُ
مِمَّا يَرْعاهُ ويَرصُدُهُ
كَلِفٌ بِغَزالٍ ذي هَيَفٍ
خَوْفُ الواشِينَ يُشَرِّدُهُ
نَصَبَتْ عَينايَ لهُ شَرَكاً
في النَّومِ فَعَزَّ تَصَيُّدُهُ
وكَفى عَجَباً أنّي قَنَصٌ
للسِّرْبِ سَبَاني أَغْيَدُهُ
صَنَمٌ للفِتْنَةِ مُنْتَصِبٌ
أَهْواهُ ولا أَتَعَبَّدُهُ
صاحٍ، والخَمْرُ جَنى فَمِهِ
سَكْرانُ اللَّحْظِ مُعَرْبِدُهُ
يَنْضو مِن مُقْلَتِهِ سَيْفاً
وكَأنَّ نُعاساً يُغْمِدُهُ
فَيُريقُ دَمَ العُشَّاقِ بهِ
والوَيْلُ لمَــنْ يَتَقَلَّدُهُ
كَلاّ، لا ذَنْبَ لمَنْ قَتَلَتْ
عَيْناهُ ولم تَقْتُـلْ يَدُهُ
***
يا مَنْ جَحَدَتْ عَيْناهُ دَمي
وعلى خَدَّيْهِ تَوَرُّدُهُ
خَدّاكَ قدِ اعْتَرَفا بِدَمي
فَعَلامَ جُفونُكَ تَجْحَدُهُ؟
إنّي لأُعيذُكَ مِن قَتْلي
وأَظُنُّكَ لا تَتَعَمَّدُهُ
باللهِ هَبِ المُشْتاقَ كَرَىً
فَلَعَلَّ خَيالَكَ يُسْعِدُهُ
ما ضَرَّكَ لو داوَيْتَ ضَنى
صَبٍّ يَهْـواكَ وتُبْعِدُهُ
لم يُبْقِ هواكَ لهُ رَمَقاً
فَلْيَبْكِ عليــهِ عُوَّدُهُ
وغَداً يَقْضي أو بَعْدَ غَدٍ
هلْ مِن نَظَرٍ يَتَزَوَّدُهُ
يا أَهْلَ الشَّرْقِ لنا شَرَقٌ
بالدّمعِ يَفيضُ مُوَرَّدُهُ
يَهْوى المُشْتـاقُ لِقاءَكُمُ
وصُروفُ الدّهْرِ تُبَعِّدُهُ
ما أَحْلى الوَصْلَ وأَعْذَبَهُ
لــولا الأيّامُ تُنَكِّدُهُ
بالبَيْنِ وبالهُجْـرانِ، فيا
لِفُؤادي كيفَ تَجَلُّـدُهُ