جميل العذري
تتنوع الأطلال وتختلف أشكال الوقوف عليها، وأصعبها ولا شك هو الوقوف على طلل الجسد واسترجاع أيام الشباب واللهو التي ولت وأصبحت عودتها ضرباً من ضروب المستحيل. اللهم إلا أن تمر أطيافاً في مرآة الخيال. وإن كان الشعراء قد اعتادوا على استهلال قصائدهم والانطلاق من الطلل إلى غرض القصيدة، إلا أن شاعرنا أبا عمرو في قصيدته هذه لم يبرح الأطلال، ودار كنجم تائه في أفلاكها يطوي المسافات الشاسعة التي تحول بينه وبين من يحب، ويعود بالزمان إلى ريعان الصبا وأيام الوصل حيث كان الوجد فراشات تسرق الأريج من حقول الروح و تبعثره بين أكف النسيم. وشاعر القصيدة أفرغ كل ما في جعبة قلبه من عاطفة صادقة وأحاسيس جياشة وذكريات جميلة وأماني بعيدة المنال أفرغها في هذه الأبيات.
ولا عجب أن تكون هذه القصيدة لشاعر بني عذرة القبيلة العربية التي ينسب إليها الحب العذري الرومانسي الذي لا ينتهي حتى بموت العاشق وبالأخص إن كان شاعراً مثل جميل بن عبد الله بن معمر العذري، وهو أحد عشاق العرب عرف بجميل بثينة وكانت وفاته عام 82 هجرية.
والقصيدة من البحر الطويل.
أَلا ليتَ رَيْعانَ الشَّبابِ جَديدُ
ودَهْراً تَوَلَّى ـ يا بُثَيْنَ ـ يَعودُ
فَنَبْقى كما كنّا نَكونُ، وأنْتُمُ
قَريبٌ، وإذْ ما تَبْذُلينَ زَهيدُ
وما أَنْسَ مِ الأَشْياءِ لا أَنْسَ قَوْلَها
وقدْ قَرَّبَتْ نِضْوِي: أَمِصْرَ تُريدُ؟
ولا قَوْلَها: لولا العُيونُ التي تَرى
لزُرْتُكَ، فاعْذُرْني، فَدَتْكَ جُدودُ
خَليلَيَّ، ما أَلْقى مِن الوَجْدِ باطِنٌ
ودَمْعي ـ بِما أُخْفي الغَداةَ ـ شَهيدُ
ألا قدْ أَرى، واللهِ، أنْ رُبَّ عَبْرَةٍ
إذا الدّارُ شَطَّتْ بَيْنَنا سَتَزيدُ
إذا قُلْتُ: ما بي يا بُثَيْنَةُ قاتِلي
مِن الحُبِّ، قالَتْ: ثابِتٌ ويَزيدُ
وإنْ قُلْتُ: رُدِّي بَعْضَ عَقْلي أعِشْ بهِ
تَوَلَّتْ وقالَتْ: ذاكَ مِنكَ بَعيدُ
فلا أنا مَرْدودٌ بِما جِئْتُ طالِباً
ولا حُبُّها فيما يَبيدُ يَبيدُ
جَزَتْكِ الجَوازي يا بُثَيْنَ سَلامَةً
إذا ما خَليلٌ بانَ وهو حَميدُ
وقُلْتُ لها: بَيْني وبَيْنَكِ فاعْلَمي
مِنَ اللهِ مِيثاقٌ له وعُهُودُ
وقد كان حُبّيكُم طَريفاً وتالِداً
وما الحُبُّ إلاّ طارِفٌ وتَلِيدُ
وإنّ عُروضَ الوَصْلِ بَيْني وَ بَيْنها
وإنْ سَهَّلَتْهُ بالمُنى لَكَؤُودُ
وأَفْنَيْتُ عُمْري بانْتِظارِي وَعْدَها
وأَبْلَيْتُ فيها الدَّهْرَ وهو جَديدُ
ويَحْسَبُ نِسْوانٌ مِن الجَهْلِ أنّني
إذا جِئْتُ إيّاهنَّ كنتُ أُريدُ
فأَقْسِمُ طَرْفي بَيْنَهُنَّ فَيَسْتَوي
وفي الصَّدْرِ بَوْنٌ بَينَهنَّ بَعيدُ
ألا لَيْتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلةً
بِوادي القُرى إنّي إذنْ لَسَعيدُ
وهل أَهْبِطَنْ أَرضاً تَظَلُّ رِياحُها
لها بِالثَّنايا والقاوِياتِ وَئيدُ
وهل أَلْقَيَنْ (سُعْدى) مِن الدّهرِ مَرَّةً
وما رَثَّ مِن حَبْلِ الصَّفاءِ جَديدُ
وقَدْ تَلْتَقي الأَشْتاتُ بَعْدَ تَفَرُّقٍ
وقد تُدْرَكُ الحاجاتُ وهي بَعيدُ
إذا جِئْتُها من الدّهرِ يوماً زائِراً
تَعَرَّضَ مَنْفوضَ اليَدَيْنِ صَدودُ
يَصُدُّ ويُغْضي عَن هَوايَ ويَجْتَني
ذُنوباً عليها، إنّهُ لَعَنودُ
فَأَصْرِمُها خَوْفاً، كأنّي مُجانِبٌ
ويَغْفُلُ عنّا مَرّةً، فَنَعودُ
ومَن يُعْطَ في الدّنيا قَرينا كَمِثْلِها
فذلك في عَيْشِ الحَياةِ رَشيدُ
يَموتُ الهوى مِنّي إذا ما لَقيتُها
ويَحْيا إذا فارَقْتُها فَيَعودُ
يقولونَ: جاهِدْ يا جَميلُ بِغَزْوَةٍ
وأيَّ جِهادٍ غَيرَهُنَّ أُريدُ
لِكُلِّ حَديثٍ عندَهُنَّ بَشاشَةٌ
وكُلُّ قَتيلٍ عندَهُنَّ شَهيدُ
وأَحْسَنُ أيّامي، وأَبْهَجُ عِيشَتي
إذا هِيجَ بي يوماً وهُنَّ قُعودُ
تَذَكَّرْتُ ليلى فالفُؤادُ عَميدُ
وشَطَّتْ نَواها فالمَزارُ بَعيدُ
عَلِقْتُ الهوى منها وَليداً، فلمْ يَزَلْ
إلى اليَوْمِ يَنْمِي حُبُّها وَيَزيدُ
فما ذُكِرَ الخِلاَّنُ إلاّ ذَكَرْتُها
ولا البُخْلُ إلاّ قُلْتُ سَوْفَ تَجودُ
إذا فَكَّرَتْ قالتْ: قد ادْرَكْتُ وُدَّهُ
وما ضَرَّني بُخْلي فكيفَ أَجُودُ
فَلو تُكْشَفُ الأَشياءُ صُودِفَ تَحْتَها
لِبَثْنَةَ حُبٌّ طارِفٌ وتَليدُ
أَلَمْ تَعْلَمي يا أُمَّ ذي الوَدْعِ أنّني
أُضاحِكُ ذِكْراكُمُ وأنتِ صَلودُ
فهَلْ أَلْقَيَنْ فَرْداً بُثَيْنَةَ ليلةً
تَجودُ لنا من وُدِّها ونَجودُ
ومَن كانَ في حُبِّي بُثَيْنَةَ يَمْتَري
فَبَرْقاءُ ذِي ضَالٍ عليَّ شَهيدُ