12/02/2007
ولد الشاعر محمد عفيفي مطر في شهر مايو 1935 بإحدى قرى المنوفية، التي تبعد عن القاهرة العاصمة ساعة زمنية واحدة.. وعمل مدرساً للفلسفة لمدة عشرين عاماً، وميز نفسه بقصيدة تحمل صوته هو، حتى امتلك تجربة ثرية امتدت لنحو ستين عاماً، حمل خلالها ثقافة موسوعية، نتج عنها ما يربو على 13 ديواناً شعرياً. هو إذن (حصان الحرية الجموح) كما تصفه زوجته.
وتزيد بأن (الدنيا أضيق من خطاه) على الرغم من الشيب الذي أشعل رأسه بياضاً، إلا أنه ما زال جامحاً كجواد بري يركض في المشهد الشعري، ويواصل إشعال الحرائق وطرح الأسئلة، ما اعتبره الجميع ظاهرة شعرية قائمة بذاتها في مسار الشعر العربي، بوصفه واحداً من أهم الشعراء المجددين في العالم العربي، وعلي الرغم من انتمائه لجيل الستينات إلا أنه ما زال وقاداً قادراً على العطاء، في ظل محاولات قصدت تهميشه من قبل المؤسسة الحكومية، التي أدمنت حجب الجوائز عنه، وغالت كثيراً في منعه من النشر داخل مصر، لكن حسبه أن حصل على تقدير الشارع الثقافي.
نلتقي الشاعر المصري الكبير محمد عفيفي مطر في حوار حول بدايات القراءة والكتابة ووجهات نظره في قضايا كثيرة تتعلق بالمشهد الثقافي:
* ما هو أهم كتاب تأثرت؟
ـ هو كتاب (نيتشه) للدكتور عبد الرحمن بدوي، عثرت على الكتاب وهو قديم مهلهل، فزلزلني زلزلة شديدة، فقد كانت حياة نيتشه وتجربته الروحية والفكرية بكل آلامها واحترقاتها، تلك الحياة التي قال هو عنها: (إحراق واحتراق) تلك كانت حياتي لقد عصفت بي كلمات القوة، وأخلاق السادة والعبيد، والتبشير بالإنسان الأعلي- عصفاً شديداً. انبهار.
* هل قادك هذا الكتاب إلى الفلسفة؟
ـ كانت كتب المناهج الدراسية في الفلسفة والمنطق وعلم النفس هي البداية في هذا النزوع نحو الفلسفة، وكان الطبيعيون الأوائل قد شكلوا رعيل الشعراء الفلاسفة منذ طاليس وحتى سقراط الذي أطلع الشمس الإغريقية. فوقفت مبهوراً أمام هيراقليطس وناره الكونية، ونهره الذي يتغير أبداً، والذي لا يكون هو أبداً بين لحظتين، ولا ينزله المرء مرتين.. بعد ذلك انتقلت إلى الصوفية والفكر الرياضي والموسيقي، فانفتحت أمامي كل الأبواب المضيئة.
* ما هو أهم كتاب قرأته في تلك المرحلة؟
ـ هو كتاب (دروس في تاريخ الفلسفة) الذي كان مصدراً رائعاً ومهماً للمعارف والمذاهب الفلسفية الإغريقية وعصر النهضة وحتى بزوغ شمس الفلسفة الحديثة على يدي ديكارت وبيكون.
* وماذا عن كتب التراث العربي والإسلامي العامرة بها مكتبتك؟
ـ كان تاريخ الفلسفة الإسلامية ودور المتكلمين من معتزلة وأشاعرة ومتصوفة ، ودور المشائين والفلاسفة من الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا، كانت موضوعات هذه الكتب تمثل وطناً آخر يدخل في نسيج الوطن الشعري للشاعر الناشئ.
* ماذا عن الوطن الشعري.. لقد أجلنا الحديث عنه كثيراً؟
ـ كنت أنسخ بخطي دواوين وقصائد لشعراء بلا حصر، وكم شهدتني الحقول وأنا أجأر وأغني مشتعلاً، لكنني أبدأ لا أنسي شعر (محمود حسن إسماعيل) وخاصة ديوانه، (لا مفر) قرأت هذا الديوان ومع أول بيت في أول قصيدة شب في كياني حريق أطاح بكل ما قرأت وحفظت من أشعار الرومانتيكيين الآخرين، فحفظت الديوان كله من الغلاف إلى الغلاف ونسخته كله بيدي، فقد قرأته مسحوراً وعصفت بي موسيقاه، وزلزلتني سطوة أنظمة القوافي بالتكرار الرياضي المحسوب، والصور النابعة من تراسل الحواس، وقلب العلاقات بين المجرد والمحسوس في الوصف والتشبيه والمجاز والاستعارة.
مرارة التجربة
* تشي أقوالك بمرارة لعدم نيلك ما تعتقد أنك تستحقه، هل هذا صحيح؟
ـ المرارة ترجع للسخط وليس لإحساسي بأني لم أنل حقي، فقد نلت حقي لكن ليس من المؤسسة التي لا تعنيني، فأنا الشاعر الفقير، الذي لا يضر ولا ينفع، والذي لا سلطة له ولا شهرة متواجد في أشعار كل الأجيال التالية لجيلي أكثر من أي شاعر آخر.. تابع ما ينشر من شعر في مصر الآن، من أسوان إلى الإسكندرية، وفي الدول العربية تجد كلامي مؤثراً في كل الأجيال الجديدة فقد شكلت أشعاري في قصيدتهم وحتى في رؤيتهم للعالم، وهذا هو الجزاء الأوفى الذي لا أطمع في أكثر منه.
* هل هذا يعني أنهم خرجوا من عباءتك؟
ـ بل خرجوا من أشعاري، من كلماتي ومن دواويني، وهذا يشعرني أنني أخذت حقي كاملاً، ليس ذلك فقط بل يسعدني ويمتعني.
* قلت: رغم ذلك يتهمك البعض بالغموض؟
ـ هذا الاتهام لا أساس له من الصحة، فالتراكيب اللغوية التي يراها البعض صعبة وغامضة هي إحدى الأساليب الشعرية الموجودة في التراث الشعري العربي، كما أن قارئ الشعر يجب أن يكون عارفاً بلغته وبأساليب هذه اللغة، وملماً بطرائق التعبير فيها، أما حكاية الغموض المدعاة هذه فلا داعي لها، فنحن لا نكتب (ألغازا) ، فقط منهجي في الكتابة وفي القراءة هو عدم الاستهسال. زيارات الدهشة.
* بعد 13 ديواناً شعيراً جاء كتابك الرابع عشر (أوائل زيارات الدهشة) ليقدم أسلوباً جديداً في كتابة السيرة الذاتية.. فما دافعك لكتابة سيرتك الذاتية؟
ـ هذا الدافع قديم جداً فقد ولد عام 1970 ، بالتحديد حينما زرت بيروت للمرة الأولى للمشاركة في مهرجان الثقافة العربية الأول، يومها طلب من كل شاعر أن يقدم لقراءته الشعرية بحديث عن تجربته يوضح فيه ملامح رؤيته للشعر يومها أمسك الخوف بخناقي، خاصة وإنني وجدت من سبقوني يقولون كلاماً غارقاً في الكذب والتلفيق وجاءت قصائدهم مقطوعة الصلة بما قالوا، لذا تحدثت عن مغالطات وغموض المصطلحات وعن الفجوة بين أقوال الشعراء وبين كلامهم النظري.
وحينما طلب مني أن أكتب سيرتي الذاتية تعجبت فأنا لم آت بمعجزة لكن بعد إلحاح قلت لنفسي: (جئت من هوامش الخلق والخليقة، فاكتب هوامش تكوينك مواطنا وإنسانا سكنته وأقامت في حياته لحظات الدهشة العايرة) وهكذا جاء الكتاب مضمونا ولغة، وكل قيمته عندي إنني ابتهجت بكتابته بلهجة نادرة وعزيزة المنال في زماننا. قصيدة النثر .
* أغلب شعراء جيلك قبلوا بقصيدة النثر لكنك لم تقبل ، لماذا؟
ـ قال : هم يقولون ليس بالموسيقي وحدها يحيا الشعر، أجل، وليس بغياب الموسيقي يحيا النثر، وحين نتحدث عن الفن، أي عن الجماليات التي تفرق بين شعر وشعر، وبين نثر ونثر، أسأل بدوري مستفهما.
* هل يكون الكون كوناً بغير الموسيقي؟
ـ وأحيل إلى نثر الكبار: (النفري والجاحظ والتوحيدي، وحتى الرافعي ومحمود شاعر) ففي نثرهم لا يخفى الحس الموسيقي المبثوث في أنماط التقسيم والتقابلات والتوازنات والصور.. الخ. وهي جوهر الأسلوبيات التي ترسخت بها الإيقاعات الداخلية العميقة في النماذج العليا للنثر العظيم، فكيف لهم بالظن أنهم ناثرون؟
وليس النثر عندي أقل مكانة وإبداعية من الشعر، لكن شريطة أن يسمو في مراقي الإبداع إلى حدود النشوة الروحية والامتلاء بالحياة، إن الإيقاعات الداخلية في النثر العظيم تنتمي للغة وحركة الأفكار ولكنها لا تنتمي للموسيقي بمعناها الرياضي الصارم، والخلط بين الإيقاع النثري في النماذج العظمي منه وبين الموسيقي يماثل الخلط بين شاعرية العبارة وبين نسق القصيدة. باختصار إن الأفق الشعري للنثر ممكن، ومتحقق بالفعل عند عدد من المبدعين الجادين، ولا يستوي نثر هؤلاء الغوغائيين أرباع المثقفين ونثر التجارب الروحية والفنية الكبيرة عند القلة من المبدعين.
* ما رأيك في التحولات التي اعترت بنية النص الشعري العربي المعاصر.. والتطور الذي جرف أشكاله وأنماطه؟
أعتقد أن القصيدة العمودية قد وصلت بمنهجها القديم، ووصل الشاعر الكلاسيكي بطريقته القديمة في رؤية العالم، وفي وظيفة القصيدة، ووظيفة اللغة في القصيدة إلى نوع من الجدب، والجفاف، والتكرار، والاعتماد على الذاكرة واستنزاف هذه الذاكرة، وكأن الشاعر قد أصبح مجرد وسيط ناقل للقدم.
لقد اختلفت مفاهيم الشعر والشاعر، إذ إن مفاهيم الحياة نفسها اختلفت، أنظر معي إلى ما اعترى خريطة العالم في الستين عاماً الماضية، لقد ضاعت فلسطين، أو ضيعت، الثورات المقموعة، الاستعمار، الذي خيم على كل بلاد العرب آنذاك..ولذلك كان لابد من وجود روح جديدة، تبني وطناً آخر بغير تلك الصورة القميئة وحساً آخر للعالم، وفعلاً آخر للقيم، وكان لابد من وجود شكل جديد، توضع فيه القيم، والرؤى الجديدة.
وكان أول هذه التصورات، هو تحرير الشعر من قوانين العروض الصارمة، ومن القاموس القديم المتجمد، فبدأ الشعر يضج بما تمور به الحياة في السياسة، وفي المجتمع ، وفي الأسواق. لقد أسس جيل الرواد، ورسخ لهذا الخروج على نفس العروض القديم، ولفكرة الاعتماد على الذاكرة والمحسوس من اللغة، وتركيب العبارة، وأصبح الشاعر يشعر باستقلاليته وتفرده، وأنه لم يعد تابعاً لقيم قديمة يبشر بها، وليس واعظاَ - بل لقد أصبح خلاقاً للتصور، وللضمير، وفيه تتجول روح الأمة.
* وما الذي حدث بعد ذلك؟
ـ لقد ابتدعت بعد ذلك أشكالا جديدة، كقصيدة القناع، القصيدة الدرامية، القصيدة العنقودية، وتجارب جديدة في استلهام التاريخ، وتحويله إلى قناع للحديث من ورائه عن العصر،وعن العالم، وتعددت الحيل الفنية، واغتنت بتنوع الشعراء، وتجاربهم، حتى وصلنا إلى ما يشبه الجمود العروضي في قصيدة التفعلية، وما يشبه المسكوكات والصيغ الناقدة، وبدأ التمرد على قصيدة التفعيلة، وبدأ التفكير في قصيدة جديدة، فبدأت كل جماعة أو تيار تبشر بما خلقت لنفسها من مبررات، وكأنه هي الفرقة الناجية، ومن فرق أمة الشعر..
ولكن الأمر لم يكن كذلك أبدا، فأصبحنا الآن في حالة صراع، ويتجلى ذلك في كتابة القصيدة النثرية على سبيل المثال، ومحاولة ما يسمى بالصراع ضد التابو، والخروج على ما هو متعارف عليه من أخلاق أو عقائد، إن هذا يمثل ما يمور به قلب الأمة حالياً من الحيرة والإحساس بالعجز والمهانة، وتعيش الأمة حالياً مرحلة عصيبة جديدة تشبه الحالة التي بدأت شعر التفعيلة، وهكذا انتهت الموجة المتصاعدة من الحلم والأمل والصراع، ووصلنا إلى القاع، فالشعراء يتفارقون في الإحساس بما هو عام وأعتقد أن جيلاً كاملاً يتقلص إحساسه بالعالم إلى حد الانحباس في مصيدة صغيرة من همومه الشخصية. على جثتي.
* برغم أن الدولة قد منحتك قبل سنوات جائزتها التشجيعية في الشعر إلا أنك لا تحظى برضا مؤسسات النشر في مصر.. لماذا؟
ـ منذ بداية الستينات، وأنا مضطرب العلاقة مع المؤسسات الثقافية وأذكر أن صلاح عبد الصبور رحمه الله عندما كان مسؤولاً عن مؤسسة النشر الرسمية للدولة أقسم أنه لن ينشر لي كتاب ولو على جثته!!
ولذلك كنت ألجأ إلى نشر دواويني في بيروت وبعض العواصم العربية ولندن، وأحياناً في دور نشر خاصة في القاهرة، وهذا سبب لي بعض الارتباك في ترتيب نشر الدواوين، وفي وصولها للقراء المصريين من ناحية أخرى، وقد حاولت تعديل هذا الوضع من خلال نشر جميع دواويني من خلال هيئة الكتاب، واتفقت على ذلك مع د. سمير سرحان رئيس هيئة الكتاب، ولكن ولأسباب شخصية وبيروقراطية كانت الدواوين تسحب من المطبعة قبل صدورها، والحمد لله أن منّ علي بما هو أفضل من خلال نشرها في دار الشروق.