منقول من موقع ديوان العرب ولا انسبه لنفسى
كانت فطوم فتاة جميلة، ذكية، ولكنها كانت فقيرة جداً، فقد مات أبوها، وأخذت أمها تعمل شحاذة، تطوف، تسأل الناس الصدقة.
وذات يوم أحضرت لها أمها قليلاً من الرز والعدس وبعض اللحم وطلبت منها أن تطبخ مخلوطة، ريثما تطوف في الأسواق لعلها تحصل على الرزق.
وشرعت فطوم في طبخ المخلوطة، ووقفت أمام القدر، لا تغادرها، وهي تعني بالطعام، حتى نضج، وإذ بالباب يقرع، ففتحته، فرأت عجوزاً تسألها بعض الطعام، فدعتها إلى الداخل وسكبت لها صحناً من المخلوطة، فشكرتها العجوز، وأقبلت على الصحن، فالتهمته، ثم طلبت صحناً آخر، فسكبت لها، فطلبت صحناً ثالثاً فرابعاً، وهكذا حتى فرغت القدر، وفطوم ترحب بها، ولا تبدي أي شيء من التذمر، ثم ودعتها العجوز وخرجت.
وحارت فطوم في أمرها، ماذا تفعل؟ وما كان منها إلا أن سكبت في القدر بعض الماء ورفعتها فوق النار، وأخذ الماء يغلي، وليس فيه إلا بقايا قليلة مما كان قد علق بجوانب القدر.
ولما رجعت الأم في المساء، قدمت لها ابنتها صحناً ليس فيه سوى الماء، وبعض الحبات من الرز والعدس، فغضبت الأم، وصرخت بابنتها: "أين المخلوطة"؟، ولم تجد البنت ما تقوله، فازداد غضب الأم، وهجمت على البنت تريد ضربها ففتحت باب الدار وولت هاربة.
ولحسن حظها قادتها قدماها إلى قصر الملك، فقعدت أسفل السور، وكان الملك في الشرفة، فرآها، فطلب من الخدم أن يحضروها ثم أمرهم أن يأخذوها إلى الحمام، ويلبسوها أحسن الثياب.
وخرجت فطوم بنت الشحاذين من الحمام أميرة، تعلوها ثياب الحرير، وما إن رآها الملك حتى فتن بجمالها، وأعلن في الحال رغبته في الزواج منها.
وعمت الأفراح البلد، ونصبت الزينات، وأقيمت الموائد، وأعلن في المدينة "سبعة أيام وثماني ليالي، لا أحد يأكل، ولا أحد يشرب، إلا من قصر الملك".
وسعدت فطوم بنت الشحاذين بحياتها الجديدة، كما سعد بها الملك، وطاب لهما العيش، فقد جمعهما القدر، ووفق بينهما الحب، وأخذت أيامهما تزداد سعادة.
وذات يوم أطلت فطوم بنت الشحاذين من شرفتها، فرأت أمها أسفل سور القصر تتسوّل، فأرسلت وراءها الخدم، ولما أحضروها، عرفتها إلى نفسها، وعرضت عليها أن تترك حياة الشحاذة والتسوّل، وأن تعيش معها، ولكنها انفجرت غاضبة، وصاحت بها "أين صحن المخلوطة، يا فطوم يا بنت الشحاذين"، وحاولت البنت تهدئتها، وإقناعها أن تلزم الصمت، ووعدتها أن تمنحها بدل صحن المخلوطة العقود واللآلئ والجواهر، ولكن صراخ الأم كان يزداد ويعلو، فما كان من البنت إلا أن لجأت إلى الحيلة، فأخبرتها أن صحن المخلوطة موجود، وأنها تخبئه في باحة القصر أسفل النافذة، ثم قادتها إلى النافذة، وجعلتها تطل منها، لترى صحن المخلوطة، ثم دفعتها، فسقطت ميتة، ثم أسرعت البنت إلى باحة القصر، وحفرت أسفل النافذة، ودفنتها.
وعادت فطوم بنت الشحاذين إلى حياتها الهانئة مع زوجها الملك، ولكن ذات يوم أطلت من نافذتها، فرأت في باحة القصر حيث دفنت أمها نبتة قد ظهرت، فلم تبال بالأمر، ولكن يوماً بعد يوم أخذت هذه النبتة تعلو وتطول، حتى صارت شجرة، وبينما، كانت البنت تتأمل أغصانها وفروعها الممتدة أمام النافذة، هبت النسمات، فتحركت الأوراق، وإذا هي تقول: "أين صحن المخلوطة، يا فطوم بنت الشحاذين؟"
وذات ليلة بينما كانت فطوم بنت الشحاذين مع زوجها الملك أمام المائدة، وهما يتسامران ويتناجيان، والنافذة بجوارهما مفتوحة، هبت نسمات ناعمة، فإذا أوراق الشجرة تتحرك هامسة: "أين صحن المخلوطة، يا فطوم بنت الشحاذين؟"، فأسرعت إلى النافذة، وأغلقتها، وهي مذعورة، قلقة، ولما رجعت إلى المائدة، لاحظ الملك شحوبها وتغيرها، بل رأى الدموع تترقرق في عينيها، فسألها عن سرّ تغيّرها، فحاولت أن تتهرب من الإجابة، ولكنه ألح عليها، فأخبرته أنها تضيق ذرعاً بالقصر، وتحنّ إلى المرحاض في دار أبيها، لأنه أجمل من القصر وأرحب.
وذهل الملك مما سمع، وأقسم أن يرى مرحاض دار أبيها، فإذا لم يكن أجمل من قصره وأرحب، فإنه سيقتلها.
ولم تصدق فطوم بنت الشحاذين أنها هي نفسها قد نطقت بمثل ذلك الكلام، وندمت على ما فرط منها في ساعة غضب.
ولكن كان لابد من أن تسير مع زوجها الملك، لتدله على دار أبيها، وكانت تسير هائمة على وجهها، لاتعرف أين تقودها خطاها، والملك في كل حين يسألها: "أين دار أبيك؟ متى سنصل؟"، وهي تلف به في البلاد، وتدور، حتى بلغا أرضاً خلاء، لا عمار فيها ولا شجر، فقال لها الملك: "أنت لاشك كاذبة، ولابد من قتلك"، واستل سيفه، ولكنها رجته أن يمهلها ثم طلبت منه أن يأذن لها أن تغيب قليلاً وراء تلة صغيرة، لقضاء حاجة، فأذن لها.
وكانت فطوم بنت الشحاذين تنوي الفرار، ولكنها ما إن غابت وراء التلة حتى رأت سلحفاة كبيرة، فاجأتها قائلة: "ماهذا الخطأ الذي بدر منك يا فطوم؟"، فدهشت، ثم قالت لها: "أرجوك ساعديني"، فطلبت منها أن تذهب على الفور وتحضر الملك، ووعدتها أن تجد في مكان السلحفاة نفسها بلاطة عليها حلقة، ماعليها إلا أن ترفعها وتنزل، لترى ما يدهش الملك، وهمت فطوم بالإسراع إلى الملك، ولكن السلحفاة حذرتها من البقاء في الأسفل أكثر من سبعة أيام، وإلا انقلب كل شيء.
ورجعت فطوم بنت الشحاذين إلى زوجها الملك، وعلائم السرور بادية على وجهها، على حين كان غاضباً، والسيف في يده، فأخبرته أنها قد وصلت إلى دار أبيها، ثم قادته إلى حيث كانت السلحفاة وراء التلة، فرأت بلاطة عليها حلقة، فرفعتها، وإذا هي أمام سرداب، نزلت فيه مع الملك، فإذا هما في قصر لم تر مثله عين، عالي القباب، واسع الأبواب، أدراجه من مرمر، وترابه من عنبر، قناديله من مرجان، كأنه من صنع الجان.
وأقام الملك مع زوجته فطوم بنت الشحاذين في القصر أياماً، وطاب لهما العيش، وهما ينعمان بأشهى الفواكه وأطايب الطعام، حتى كان اليوم السابع، تذكرت فطوم بنت الشحاذين السلحفاة، فقالت لزوجها الملك: "أحنّ إلى قصرك، وأشتاق إليه، ولن أذكر بعد اليوم قصر أبي"، فسامحها الملك، وعفا عنها.
وخرجا من السرداب، وإذا هما مرة أخرى في تلك الفلاة، حيث لاشجر ولا عمار، ولم يخطوا بضع خطوات، حتى قالت فطوم بنت الشحاذين للملك"، اعذرني، أريد قضاء حاجة"، ورجعت إلى وراء التلة، فرأت السلحفاة حيث كان باب السرداب، فشكرتها، وسألتها من تكون في الحقيقة، فأخبرتها أنها هي تلك العجوز التي رحبت بها وأطعمتها قدر المخلوطة.
ورجع الملك وزوجته بنت الشحاذين، ليعيشا معاً حياتهما هانئين سعيدين.
تعليق:
تؤكد الحكاية في الظاهر حسن جزاء فاعل الخير، إذ إنه لابد أن يلقى جزاءه الأوفى، ولو بعد حين من العذاب والشقاء.
وهي تدل في العمق على حلم الفقراء دائماً بالحياة في قصور الملوك والأغنياء، وشعورهم أحياناً أنهم أولى منهم بالعيش في تلك القصور، فمثل فطوم بنت الشحاذين لاينقصها شيء من جمال أو ذكاء لتعيش في القصور، ولكن من سوء حظها أنها ولدت في بيت فقير.
وهي تدل أيضاً على شعور الفقراء أن سوء الحظ يلاحقهم دائماً، ولو وصلوا إلى القصور، لا لشيء أيضاً، إلا لأنهم فقراء.
ويؤكد ذلك أن فطوم تصل إلى قصر الملك، ولكن أمها تلاحقها ثم ترميها من النافذة وتدفنها في باحة القصر، فلا تنجو، إذ تنبت شجرة تنطق مؤكدة فقرها ويظل سوء الحظ يلاحقها حين تتفوه بكلام يزعج الملك.
وتمتاز الحكاية بالخيال الخصب، فالأم تدفن ويخرج في موضعها شجرة، والشحاذة التي طرقت الباب على الفتاة تظهر على شكل سلحفاة، والبلاطة تفتح عن سرداب يقود إلى قصر منيف.ومثل تلك العناصر كثير في الحكايات الشعبية.