محمد محمود عبد الرازق أحد كبار النقاد المهمومين بالإبداع ،وهذه دراسة وجدتها له عن رواية الشاعر محمد العتر:
حارة النفيس
محمد محمود عبد الرازق
كان لابد للشاعر محمد العتر أن يستثمر موهبته الحكائية التى تبدت فى كثير من قصائده. وإذا كان قد أصبح من كتاب السيرة بكتابه «سفر الموت» فإنه دخل عالم الرواية واثقا ثابت الخطى برواية: «حارة النفيس» وثمة صلة قربى بين العملين ، فى السفر قرأنا «سيرة» القاص يوسف القط، وفى الحارة نقرأ «سيرة» مدينة دمياط، والحارة ـ قديما ـ هى الحى، وكان لكل حى أوحارة شيخ، وأهم شوارع هذه الحارة شارع النفيس الذى يصب فى سوق الحسبة وكان هذا السوق ـ فى زمن الرواية ـ مركز المدينة. وكانت دمياط إحدى سبع محافظات تتألق وسط المديريات، وهذه المحافظات هى: القاهرة... الإسكندرية.. دمياط.. أسوان، ومدن القناة الثلاث: بورسعيد والإسماعيلية والسويس، والمديرية تتبعها مراكز ، أما المحافظة فلا روافد لها غير القرى المحيطة بها.
ومن باب السهو أن يذكر الكاتب أن دمياط كانت مديرية، وهويتحدث عن العالمة انشراح: فانشراح هى صاحبة التخت والأسطى العالمة به، وكان لهذا التخت شهرته الواسعة بكل أنحاء المديرية وخاصة فى القرى والنجوع»(ص 15) ومما يؤكد السهو ذكره كونهامحافظة عند متابعته لمسيرة حامد بك: «كان حامد بك يتذكر عندما كان خنشع يناديه بالعمدة... وبدأ فى التخطيط والإعداد لدخول الانتخابات البرلمانية، وهو يفكرفى أنه الغريب الذى جاء ليكون من تجار السوق الكبير فوجد الظروف مواتية أمامه ليكون حامد بك، ويكون الكبير سواء فى السوق أو فى الحارة، فهل يمكن أن يكون الكبير فى المدينة، بل فى المحافظة بأكملها..»(ص 75)
ويجسد محمد العتر مدينته من خلال مجموعة من الشخصيات. والشخصيتان الرئيسيتان هما انشراح وحامد ، وينقل الكاتب عن الواقع حين يحدثنا عن صوت انشراح وجمالها: «كان لانشراح صوت ناعم رخيم جميل، يضيف إلى جمال قوامها وملامح وجهها جمالا فائقا» وكانت لا تغنى إلا إذا اتفق معها، فإذا غنت لايسمع إلاصوتها الذى يذوب فيه الجميع. وإذا علمت النساء بالاتفاق أكلتهن الحيرة وحضرن الفرع لمراقبة أزواجهن. وكانت وقور تبالغ فى الاحتشام الذى كان له فعل السحر فى القلوب. وعلى احترامها لنفسها ولفنها ترتكز هذه الرواية.
ثمة صورة أخرى، لفنان آخر يعتز بفنه وكرامته. فعندما كان حامد بك يتردد على قهوة «خنشع» من أجل انشراح كانت تصل إلى أذنيه أنغام شجية من دكان قريب. وكانت القهوة تقع على ناصية ميدان السوق وشارع النفيس. وسأل حامد بك عن صاحب الدكان؛ فقال له خنشع إنه دكان «على أبو دربالة».. أشهر مزيكاتى فى البلد... يعنى زى ما الاسطى انشراح أشهر صاحبة تخت هو كمان أشهر مزيكاتى... بس هو اللى لازم يحىى الحفلة مش زى الأسطى انشراح (...) زى ما انت سامع كده طول النهار يعمل بروفات ويصلح الآلات ويدرب نفسه على كل الأغانى خصوصا... أغانى الست، أنت لوشفت أهل الفرح وأصحاب الحفلات وهمابيحاولوا كل واحد يطلع من الأسطى اللى التانى معرفش يطلعه.. كل واحد عاوز يسمع أغنية يطلبها من الأسطى على ، يعنى الليلة مش ممكن تعدى إلاويكون الأسطى قال كل أغانى الست وأغانى الأستاذ عبد الوهاب... (ص 33)
وعندما أراد حامد بك أن يقيم بالحارة، رغب أن يدخلها دخول الفاتحين، فى موكب كبير ويزفه أبودرباله. ونسى حامد ماذكره له خنشع من أن الأسطى على رغم رقة باله غيور على فنه، ويعتبر مثل هذه الزفة خروجا على قداسة الفن، لكنه لم يتوقع عندما رفض الطلب أن يبطش به إلى هذه الدرجة، فيشترى المربع الذى يدخل فيه دكانه، ويخرجه من الحارة كلها، ويحول الدكان إلى اسطبل لذات الحصان «الذى كان يركبه يوم دخول الحارة محمولا على أعناق أهلها».
وتمت المقابلة الأولى بين انشراح وحامد حين تصادف وجوده فى أحد الأفراح، وطلب منها أن تغنى فرفضت ، وقامت بينهما مشادة حادة كادت تقضى على الليلةو لولا تدخل أولاد الحلال وإقناعها رأفة بأصحاب الفرح، وغنت انشراح أغنية ملائمة للموقف، «إياك فهمت إنك قادر» استضافتها الرواية. وتجاهلت ما كان يتفوه به طوال فترة غنائها من عبارات غزل، وماصدر عنه من حركات وآهات.
وبعد انتهاء الأغنية صعد إلى التخت وقدم لها شكره واعتذاره، واستأذنها أن تقبل استضافته وتختها فرفضت، ثم عرض عليهاأن يوصلها بسيارته فأبت، رغم ماكانوا يلاقونه من عناء لعدم توافر وسائل المواصلات «وكثيرا ما كانوا يضطرون إلى السير على أقدامهم» وأخفت انشراح اعجابها بشخصية حامد ولهفتها إلى التحدث معه، ولما أوصلهاخادمه أمرته بالوقوف قرب الحارة، حتى لا يعرف الطريق إلى منزلها.
ويشعر القارئ من خلال هذه الأحداث التى تبنى أساساعلى أكتاف شخصيات واقعية يتدخل الخيال فى تظليلها، أو شخصيات مبتدعة يتدخل الواقع فى وضع بصماته عليها.. يشعر القارئ أنه لم يكن لدنياأم كلثوم واحدة، أو عبد الوهاب واحد، وإنماكان لدنيا ـ ومازال ـ العشرات، بل والمئات يتناثرون على طين قراناونجوعنا، وعلى أرصفة مدننا الكبيرة والصغيرة... وعلى من يريد أن يواصل المسيرة أن يتعلم السباحة ضد تيارات القهر والبطش والإحباط، ذات الأشكال المختلفة والسبل المتعددة. وعرفت انشراح أن حامد استوطن الحارة من أجل الوصول إليها ، وأن طلب الزواج منها إنما هو طريقة من طرق الوصول إلى ما يريد. وكانت دائما تضع المحاذير فى تعاملها معه ، لكنهابعد أن شاهدت قتله للأسطى على أبو درباله آثرت الاختفاء:
«.. أهى انشراح خرجت من بيتها وتركت الحارة من غير أن يعرف أحد أين ذهبت بسبب بطش حامد بك، أصلها لو قعدت تكون جارية لحامد بك أو تطق تموت مثل على ما طق ومات لأنه قال لأ فى وجه حامد بك».. لكن الخوف ألجم ألسنة الرجال، والتمسوا العلل الزائفة لتأويل الأحداث لصالح حامد بك: «...على اللى ركب دماغه وعمل فيها فنان ورفض يزف الراجل وهو داخل الحارة فرحان».. حتى الشيخ هلال شيخ مسجد النفيس كان كما قالت له الفتاة اليهودية يخاف مثل الناس، لكنه يجيد «المبررات زى اتقاء الشبهات» :
وتكثر الإيماءات التى تشير إلى أن حامد بك كان وراء كل جريمة أوخراب حل بالحارة، فهو الذى استعمل العنكيب لقتل التميم وكان وراء الإفراج عن صاحب المقهى بحجة إثبات التحليل أن المادة التى كان يحملها « سم فيران» وليست «مخدرات» وهو الذى شجع الفساد المستشرى فى حلقات الذكر التى تقيمها الشيخة إحسان وهو الذى فتح للعنكيب محلا لبيع المستورد والجاهز» وكان وراء هدمه للمقهى بالقوة ليبنى على أطلالها برجا، وهو الذى مكن لهذا العاطل فى الأرض حتى سيطر على السوق، وتنبأ الناس بخلافته له، وتساءلوا عن السر الكامن من وراء هذا التبنى وإذا عرف أن العنكيب القاتل كان يمارس اللواط مع التميم المقتول لبطل العجب لمعرفة السبب. ويموت حامد بك موتا طبيعيا، ليتساءل الكاتب فى نهاية الرواية تساؤلا غير مبرر لمسابقة إجابة الأحداث عليه: «ولكن.. هل ستنجو الحارة من سطوة حامد جديد ممثلا فى العنكيب؟؟..»
ويبدو أن مذبحة أخته ـ فى بيت الشيخة إحسان ـ هى التى ألجأته إلى التنفيس الشاذ عن رغباته الجنسية وقبل الحديث عن هذا الخطب، دعونا نتحدث عن الطقس الوثنى الذى كان يمارس يوميا بالحارة، كان مسجد النفيس يقع فى طرف السوق بين بيت انشراح وبيت الشيخة إحسان. وكانت«شجرة المدد» تتوسط المسجد وبيت الشيخة. وهى شجرة معمرة يكاد عمرها يقارب عمر الحارة،ومازالت صامدة، وتزداد ـ على مرالأيام ـ ضخامة وشموخا وصمتا، وقد اعتاد الأولاد ـ وخاصة أولاد مدرسة «شمس الفتوح» الملاصقة لبيت انشراح ـ مشاهدة حلقات الذكرالتى تقام كل ليلة داخل بيت الشيخة. وكان منزلها يتكون من طابق واحد له حوش كبير يتسع لعدد لا بأس به من المريدين والأتباع. وكانت النساء المشاركات يتساقطن فى الحوش فاقدات الوعى أحيانا، عاريات الصدر والأفخاذ، ولا يشعرن بأنفسهن حتى الصباح، وفى الليل كان العنكيب وبندق والكيكى ونمرة وغيرهم يشاهدون أهل الحارة وهم يتمسحون بالشجرة ويتباركون بزيارة الشيخة إحسان والذكور وهم نيام وسط النساء.
لم يكن العنكيب يعلم أن يوم الخميس هو اليوم المقرر للختان ، وذات خميس وجد أخته بين البنات، ولم يستطع رؤيتها فى وضع الختان فقط من فوق الشجرة وكسرت ساقه وصار أعرج. وظل هذا المنظر يطارده حتى بعد أن ترك المدرسة واشتغل عند الحاج حنيجل بائع الفول الشهير. وهذا هو ما جعله يطلب من الفتاة اليهودية الزواج ظنا منه ـ خطأ ـ أن اليهوديات لا يختن، وعندما شكاه جوزيف قطاوى إلى حامد بك، ذكر ذلك كله: «وقفت فى يوم خميس على الشجرة وجدت أختى مع باقى البنات مكتفة من النسوان ومفتوحة الأرجل كما لو كن ذبائح، ولم أفق إلا وأنا على الأرض ورجلى مكسورة وخفت أقول لأحد سبب وقوعى حتى اليوم، لم أذكر هذا إلا الآن وعرفت من مدرسى بالفصل بعدما عدت إلى المدرسة أن هذا اسمه الختان (...) رجلى تذكرنى بهذا المنظر دائما، يبقى لما أحاول الزواج أفكر أتزوج ذبيحة وإلا أبعد بعيد..؟!» ومن جهة أخرى، يؤكد رفض حامد بك زواج العنكيب ما ذهبنا إليه بشأن العلاقة بينهما.
وإذا كان حامد بك والعنكيب يمثلان تعاقب الشر، فإن صادق والشيخ يمثلان تآزر الخير، ونحن لا نعرف عن صادق، سوى أنه كان صادق النصيحة لحامد بك، لكنه كان لا يلتفت إلى نصحه هو خادمه، وبالكاد نعرف أنه كان مربيه، ولهذا فهو الوحيد الذى يمكنه مجابهته، يبدو أن العلاقة بينهما كانت أكبر من هذا، وإلا لما تصرف فى أملاكه بعد موته ، وقد وهب كل التركة لتحويل بيت الفتاة اليهودية بعد قتلها إلى مسجد «طالبا من المولى عز وجل أن يغفر لحامد بك ما ارتكبه فى حق هذه الحارة وأهلها من آثام» (144)
واهتم الكاتب بسيرة الشيخ هلال منذ أن قدم غريبا إلى الحارة، ليكون إمام وخطيب مسجد النفيس، وسرعان ما أدرك الناس أنه مغاير لسابقه، واكتشفوا مدى اعتزازه بنفسه ووقوفه ضد الشعوذة وليالى المسخرة عند الشيخة إحسان. وكان لصوته فعل السحر فجذب إليه المريدين الذين أقبلوا عليه لحفظ القرآن، وكان يقيم بالمسجد، وكانت الفتاة اليهودية قبيلة جوزيف قطاوى من بين من هداهم وطلبت منه ألا يعلن إسلامها إلا بعد إنهاء دراستها.. لكن الحارة أطلقت الشائعات حولهما بعد زيارتها الليلية لتحفيظها القرأن، فقتلها أبوها عند دخولها المنزل، وهكذا أجهز الشر على مجهودات الخير.
وأهم ما استند إليه عنصر التشويق لدى كاتبنا التنوع الثرى لشخصيات الحارة، والتنقل الرشيق بينها. ومن هذه الشخصيات: خنشع صاحب القهوة، وحنيجل بائع الفول الشهير، وذكى مهرج تخت انشراح وزوج راقصته ناعسة، والعوضى عبد ربه كبير العائلة المستبدة قبل وقوف حامد بك على المسرح، وقد مات ـ أيضا ـ ميتة طبيعية. وتحدث عن مزيكة على أبو دربالة، ولم يذكر مزيكة محمد عيد الذى كان لها شهرة مزيكة حسب الله بالقاهرة. كما تحدث عن مدرسة الحزاوى ومنتداه، ولم يلتفت إلى جريدته التى كانت أولى الجرائد الإقليمية وأهمها. ولم يؤثر ذلك ـ بطبيعة الحال ـ فى مسيرة الرواية، لأنه لم يكن مؤرخا، وإنما كان روائيا يأخذ من مخزونه بقدر، وفق متطلبات العمل. وأحيانا لا يرتبط حديثه بالأحداث ـ مثل كلامه عن الحزاوى ـ وإن كان وثيق الصلة بالجو العام، فقد كانت المدرسة معلما من معالم الحارة، يقول بعد انتهاء كلامه عن دكان الفول: «كما جمع دكان حنيجل مختلف الطبقات، جمعت مدرسة الحزاوى الصفوة من كبار القوم والخاصة من أهل الفكر والعلماء والأدباء، فقد استطاع الحزاوى أن يحول حجرة النظارة بمنضدتها المحمولة على أربعة أرجل مصنعة على شكل سمكات متوحشات كبيرة الحجم... يتوقف أمامها كل من يراها لما لها من غرابة ودقة هندسية، فقد كانت تعد من التحف النادرة لبراعة تصميمها، فكانت هذه المنضدة المكان الأثير الذى يلتف حوله العلماء والمفكرون ليكون منتدى فكرىا وأدبى لكبار القوم وخاصة أهل الفكر منهم».
ولغة محمد العتر مزيج من العامية المصرية والعربية المصرية مثل: «كانت الأسئلة تدور جوه صدرى» و«العنكيب زى ما أنت تتوقعين بعد قليل من الوقت ح يكون حامد بك آخر» وأحيانايحالفه التوفيق كما فى الجملة الأولى، وأحيانا بجانبه كما فى العبارة الثانية التى تخرج من إطار الفصاحة إلى الفهامة. وكان النجاح يحالفه غالبا عندمايقتصر على العامية، حتى عندماينسى نفسه ويعود إلى أصله شاعرا عاميا:
الحارة ماتت
سكاتها غير أى سكات
لا حد بيطير فى سماها
ولا عاد بيطير حمامها،
شايلة ذنوبها وذنوب غيرها ومتحملة الأوزار
خايف أكون خايف على ضلها ليضل
الدنيا واللا الحارة اللى ميزانها اختل.