* وكيف نضج تكوينك الشعري وتكون ذلك القرار الهام بحياتك بالمغادرة الى القاهرة؟
- كنت والشاعر أمل دنقل "رحمة الله عليه" رفيق رحلة واحدة في الطفولة وحتى الرحيل، وفي فترة ما كان أمل دنقل هو جمهوري الوحيد وكنت أنا جمهوره الوحيد، وبعد أن أنهينا دراستنا الثانوية قررنا أن نذهب الى القاهرة للالتحاق بالجامعة، فاجتذبتنا الندوات الادبية والامسيات الشعرية والانشطة التي كانت تعج بها القاهرة، ومحاولة رؤية كل هؤلاء الذين قرأنا لهم وأعجبنا بهم وكان أملنا أن نراهم فصرنا نشاركهم قراءة الشعر في محافلهم، وصرنا معروفين ولكننا قد نسينا أننا جئنا للدراسة في الجامعة فعدنا فاشلين خائبين، وقبلنا أن نعمل في وظائف مهينة في محكمة قنا، هو وظيفة محضر أي الذي يحجز على الفقراء وأشيائهم الغلبانة، نظير مال للدولة أو ديون للاخرين، وكان يخرج في كل مرة مشيعاً باللعنات والدعوات السوداء من نسوة كانوا يعتقدون أنه الدولة، أما أنا فكنت أعمل كاتب محكمة أي الرجل الذي يجلس الى جوار القاضي يدون الاحكام والمنطوقات، وفي الواقع لقد كنا من أسوأ أنواع الموظفين ومازالوا يصححون أخطائنا في الدفاتر القديمة حتى اليوم.
* هل كان قرار مغادرة القرية سهلاً؟
- فيما بعد وحين نضجت أشعارنا وأفكارنا وتبلورت تجاربنا الشعرية، وعرفت أشعارنا صدور الصحف والمجلات القاهرية وعرفنا الكثير من المثقفين وتحدثوا عن تجربتنا، فكان لا بد من إنتزاع جسدينا من تلك التشابكات الوظيفية والروتينية والهرب الى القاهرة، ولم يكن ذلك أمراً سهلا بالنسبة للاهل والاقارب فكأننا كنا في طريقنا الى السلطة أو الى التجنيد في الجيش العثماني، ولم تفتح لنا القاهرة ذراعيها بسهولة، ولكننا أجبرنا الذراعين على أن ينفتحا رغماً عن أنفها، فقد كنا مقاتلين صغيرين صعيدين نحمل شراسة الانسان الصعيدي من أجل الحفاظ على حياته، فلم يكن أحد في القاهرة الرقيقة بقادر على أن يقف في وجه جموحنا وطموحنا وهكذا. وسرعان ما عرف الناس أشعارنا وصرنا حالة من حالات الابداع الجديد التي لا يمكن وقفها ثم صدرت دواويننا تباعاً.
* لقد اصطدمت في القاهرة بوعي جديد وعالم جديد فكيف تعايشت مع هذه التجربة وخاصة أنه تم اعتقالك عام 66؟
- جئت للقاهرة عام 1962 وأنا مدين للقاهرة بأنها جعلتني أطل من جديد على أبنود وأن أعيد فهمي لاوضاعها، وأنا دائماً مدين للقاهرة بأنها وهبتني الكتاب والفيلم والمسرح والمقال الذي أدى بي الى أن اعيد النظر في تجربتي السابقة واقرؤها من جديد. كنت أحب عبد الناصر مثل أي واحد من فقراء مصر في ذلك الوقت، ولكن حين جئت الى القاهرة كان لا بد أن أحكي عن أحوال أهلي هناك ولم اكن أعتبر أن نظام عبد الناصر المنحاز للجماهير من الممكن أن يزعجه ذلك، لدرجة أن ديواني الاول "الارض والعيال" صودر ومنع ولولا غضب المثقفين في ذلك الوقت والضجة التي صنعوها من أجل الديوان لما أفرج عنه، هكذا بدأت أعرف أن الانظمة السياسية ليست رئيساً فقط وأن لعبة الطبقات والتعبير عنها في سلطة، فكان لا بد أن أبحث عمن يعبر عن طبقتي معي من هنا. -وقد كانت مصر تعج بالتنظيمات الصغيرة- انتميت الى تنظيم اسمه "وحدة الشيوعين"، اكتشفت بعد فترة أن لا أمل منه أو فيه، فلقد بحثت فيه عن الوعي بمأساة فقراء بلادنا وبالذات المناطق التي اتيت منها، فوجدت أنني وقعت في حبائل بعض المثقفين الذين لا يعرفون عن الواقع المصري شيئاً، والذين يفرحون كثيراً بالكلام (المجعلص) الذي لا صله له بالواقع، وقد كنت اعتقد أن الشيوعين هم محامو الفقراء واكتشفت أن الشيوعين في مصر معجبون جداً بالصياغات والمحاورات التي لا مكانة لفقرائي بينهم، هكذا استقلت ولم اكن أعرف أن مسؤولي السياسي في هذا التنظيم هو عميل للمباحث العامة، أي أن الرجل الذي كان يدرسني محبة الفقراء هو عميل للمباحث ويبلغ عنا أول بأول بعد كل اجتماع، وعليك أن تتخيلي حجم الصدمة، ولكن عليك أيضاً أن تتخيلي حجم الوعي الذي قذفت به هذه التجربة التعيسة الى تجربتي القديمة.
* ومتى تم اعتقالك إذن! فأنت استقلت من التنظيم الشيوعي؟
- بعد الاستقالة بأكثر من عام فوجئت بالقبض علي في ليلة رضي فيها عني الشيخ الابنودي-والدي- بعد أن بلغه الناس بأن إبنه انسان جيد، وتصادف أن هجمت المباحث العامة على بيتي في الفجر وفوجئ والدي الذي لم يرني منذ خمس سنوات بالبيت ينقلب رأساً على عقب، تُمزق الحاشيات وتُفتح الادراج والدواليب ويًستباح كل شئ، ولا شك أنه خُيل إليه للحظات أنني اُتاجر في المخدرات أو أنني أعمل لصاً، فقلت له جملة واحدة: يا والدي أنا يشرفني أن يقبض علي هؤلاء المجرمون، ولقد صفعني الضابط أمامه ثمناً لتلك المقولة، فأكملت: المجرمون كما ترى، وخرجت معهم لالتقي بكل أصدقائي واخواني وقد قبض عليهم في هذه الليلة جمال الغيطاني، صلاح عيسى، سيد خميس، سيد حجاب وبعض الصحافيين في جريدة الجمهورية مثل محمد العربي، والراحل جلال السيد، وكان معنا الكثير ممن كانت لهم كتابات جذبتنا في ذلك الوقت وعشنا ستة شهور بين عنابر ليمان طره والسجن الافنرادي في القلعة في الزنازين التي لا بد وأن سُجن بها المماليك من قبلنا أيام محمد علي باشا.
* ماذا تعني لك تجربة المعتقل؟
- ما زلت اعتقد أن السجن والحرب من أهم التجارب في حياتي وانهما الى جانب تجربة أبنود ساهما الى حد كبير في منحي الوعي النهائي بحياتي ومصيري ومن حولي، وأنا اعتقد أن المبدع الذي لم يجرب السجن ولم يعش ويلات الحرب يظل ناقص التجربة وسطحي التعامل مع الحياة. ويقول الاديب "غالب هلسا" وقد سُجن معنا وكان يعامل معالمة المصريين أن من لم يًسجن مع الابنودي لم يعرف أن السجن جميل، ذلك لأن جدار السجن هو الجدار الذي ليس بعده جدار، بمعنى لأن يسند الانسان ظهره عليه ويقول ما يريد لأن يقول فيلامس لأقصى غايات الحرية لانه في السجن وليس ثمة سجن بعد ذلك، وكنت لأسخر من هؤلاء الذين يهتمون بواقعهم خارج السجن، ولأفهمهم دائماً بأن الواقع هو ما نحن فيه، وعليهم أن ينسوا تماماً أن ثمة شئ اسمه الخارج، ولقد كتبت ملحمتي الشعرية والتي اعتبرها أهم عمالي الشعرية "أحمد سماعين" والمعتقلون نيام في نفس العنبر، فقد كنت أقوم كل ليلة واستكمل بناء العمل وكتابته على صوت صرير أضراس المعتقلين وشخيرهم الذي يشبه كورال الاوبرا (ضاحكاً).
* ولماذا تم ايقاف نشاطك الاعلامي عام 80؟
- ايقاف نشاطي الاعلامي وقطع رزقي والمعاناة والاصطدامات بين السلطة وبيني فانها قد استمرت طوال الوقت، وإن كنت خلال الفترة الناصرية قد اطلقت مجموعة كبيرة من الاشعار وثقت العلاقة يني وبين الجماهير، الا أن الواقعة التي تتحدثين عنها كانت في عام 80 حين رأى السادات أني قد أصلح شاعر السلطان كما كان "صلاح جاهين" شاعر عبد الناصر، وحين احسست بذلك وتنبأت من قبل بكامب ديفيد قبل أن تحدث، انطلقت أكتب وأقرأ في الناس مجموعة كبيرة من أشعاري التي شكلت ديواناً أسميته "المشروع والممنوع" مهاجماً فيه السادات وكامب ديفيد، وهي فترة كانت شديدة الحيوية في حياتي لان السادات كان شخصية تُلهم أي شاعر وطني أو قومي، فقد كنت أراه في التلفزيون فيتدفق الشعر دون إرادة (ضاحكاً) على عكس من جاؤا بعد ذلك، فقد جففوا الشعر في داخلنا وغيروا طعم الحياة، وأحسسنا معهم بالعبث من النضال واليأس من أن يأتي اليوم الذي حلمنا به لشعوبنا ولقضايانا العربية.
* هل كنت مؤيداً أو معارضاً لجمال عبد الناصر؟
- كان لي عم سألني مرة: يا عبد الرحمن لماذا سجنوك؟ فأجبته: "الراجل اللي اسمه جمال عبد الناصر"، ولم يتركني اُكمل فقد احس بأنني بصدد إهانة الزعيم، فصرخ: هل كبرت وتعلمت لتقول عن عبد الناصر "الراجل اللي" وهو الذي لولاه لما لبست القميص والبنطلون، ولا كان لك شأن في هذا البلد. في الواقع فإن الفلاحين هم الذين أدركوا أكثر منا قيمة عبد الناصر وانحيازه لهم، إذ بنى لهم الوحدات المجمعة، وأصدر قانون الاصلاح الزراعي الذي وزع عليهم من خلاله فدادين الاقطاعيين، وبنى لهم مستشفيات ونزل الاطباء لاول مرة الى القرى، ناهيك عن التصنيع الثقيل والخفيف، والشروع في بناء السد العالي وخوض المعارك ضد الامبريالية والصهيوينة والقوى الرجعية في الداخل، ولكن النظام لم يكن يفرق بين أصدقائه واعدائه ولم يكن يقبل بالنقد أو محاولة التوجيه، فقد كنا نعرف القرى أكثر منه وأحوال الفلاحين أكثر منه، ومع ذلك كنا إذا نطقنا نُعاقب على الرغم من أنه كان يعمل من أجلهم، وإذا نظرت الان لا يدافع عن هذا الزعيم الذي مات شهيد القضية العربية وأيلول الاسود والذي عاش ومات شريفاً لم يلمس مال الشعب غيرنا، والذي كان علامة بارزة في النضال العربي والعالمي، فنحن خاصة بعد أن تواتر الزعماء ظهرت قيمة الرجل ومعدنه وأصالته، ووطنيته المتقدة وإحساسه القومي الذي لا غبار عليه، ولم يكن عبد الناصر زعيماً لمصر فقط ولكنه قاد القوى الوطنية والقومية في العالم العربي بأجمعه، ولو كان عبد الناصر فتح المجال للديمقراطية وللحوار الحقيقي في مصر لما انتهت تجربته باعتلاء شحص آخر السلطة مكانه، فقد كان نظام عبد الناصر يُكبل الشعب بالحبال ثم يذهب لخوض معاركه القاسية ضد الاستعمار والصهيوينة ويحقق انتصارات ثم يأتي ليحمل الشعب المكبل وينتقل به خطوات الى الامام دون أن يتركه ليتعلم الخطوة الثورية والفعل النضالي بنفسه، ولذلك حين جاء السادات وداس على (زرار) وغير توجهات السياسة المصرية باكملها، لم يجد من الشعب المكبل من يوقفه، وهذا هو الخطأ الوحيد للنظام الناصري برأيي.
* ما هو الامر المميز بعبد الناصر برأيك؟
- الفارق أنه كان بناءً عظيماً ولكنه أسس لعصر اللصوص، لانه لم يخلق حراساً من الشعب على إنجازه العظيم. والان هم يحاولون فك إنجاز عبد الناصر العظيم ومع ذلك تظل قامة عبد الناصر منتصبة في ميدان النضال العربي عبر التاريخ، ولن يستطيعوا أن ينالوا منه. هل تصدقين أن السادات رفع لوحة عبد الناصر من على جسم السد العالي لينحتوا صورته هو بدلاً منه؟؟ تماماً مثلما انتهى دور السادات في حرب اكتوبر وكأنه لم يخطط له ولم يدبرها واختصرت كل الحرب في طلعة الطيران الاولى في عهد الرئيس حسني مبارك، وهذا دائماً كان شأن مصر من أيام الفراعنة إذ يأتي الفرعون ليكشط إسم وصورة الفرعون الذي سبقه ويحتفظ فقط باعماله لينسبها اليه