حوار : محمد شعير
صمت أحمد فؤاد نجم طويلا. عاد بذاكرته أربعين عاما إلي الوراء. كنت قد سألته : ماذا فعلت بك النكسة؟ .... عندما أدرك أن صمته طال، راح يلقي قصيدة (الحاج عبد المنعم):
يا عم يا إللي أنت غصب عنا ريسنا
يا إللي اليهود لوثوك وإحنا معاك لوصنا
...........
قصيدة حادة، غاضبة، وصريحة لحد أنه لا يمكن نشر بقية كلماتها، ولكنها تكشف كيف بلغت حدة الغضب في مصر بعد الهزيمة وانهارت هيبة الزعيم. الحاج عبد المنعم هو أحد عمال 'الصف 'بالأهرام في الستينيات. القصيدة مثلها مثل قصيدة نجيب سرور الشهيرة ( الأميات) كانت _ مع الكثير من القصائد الأخري لشعراء معروفين ومجهولين _ من نتاج الهزيمة.
(البيان الأول) كانت أول قصيدة كتبها الفاجومي تعبيرا عما حدث في 67 ، كتبها بعد أن (سقط كل شئ، والمستخبي بان ) كما يقول . وانتشرت كلمات القصيدة بسرعة شديدة: (الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا / يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار / يا أهل مصر المحمية بالحرامية / الفول كتير والطعمية / والبر عمار/ والعيشة معدن واهي ماشية/ آخر أشيا/ مدام جنابه والحاشية/ بكروش وكتار/ ح تقول لي ¢سينا¢.. وما ¢سيناشي¢. / ما تدوشناشي / ما ستميت أتوبيس ماشي/ شاحنين أنفار/ إيه يعني شعب في ليل ذله/ ضايع كله / دا كفاية بس أما تقوله/ إحنا الثوار!).
لم تكن القصائد الساخرة الحادة هي رد فعل الوحيد من الشعب علي الهزيمة­ كما يقول نجم. ¢ النكتة أيضا ¢ يضيف الفاجومي ، كان هناك أكثر من ثلاثة آلاف نكتة قالها المصريون علي 5 يونيو لدرجة أن عبد الناصر في عز مجده، وفي يده كل سلطات الدولة خرج في خطاب رسمي يطلب من المصريين ( كفاية نكت بقي..).
ولكن هل توقف الشعب؟ يقول نجم 'لا، لم يستجب الشعب ، الهزيمة كانت قاسية، كنا نحلق بأحلامنا في العلالي، كنا في السما ، وفجأة استيقظنا لنجد أنفسنا ليس علي الأرض وإنما في بئر عميقة).
عندما استدعي حسن أبو باشا ضابط أمن الدولة وقتها الفاجومي للتحقيق معه في عام 1969 ، فوجئ الفاجومي باتهامه بأنه كتب كل هذه القصائد التي تنتقد النظام وتسخر من عبد الناصر.. يقول نجم: ( كان أمامه كومة أوراق ، مئات القصائد ، والنكات وأنا متهم بتأليفها، ضحكت عندما أخبرني بذلك ..وقلت له كل دا أنا كتبته؟ دا أنا عبقري بقي. والمفاجأة أن نجم استمع من قبل إلي قصيدة الحاج عبد المنعم ، وكان يريد نسخة منها، وفوجئ بأبي باشا يعرضها عليه، فقال له نجم والله كويس أنا بأدور علي القصيدة دي من أول مرة سمعتها فيها، شكرا للداخلية. في سنوات السجن الأولي لأسباب غير سياسية أصيب نجم بقرحة، وبعد النكسة، تجددت : ( لم أكن أخرج من بيتي، ظللت أنزف دما من مؤخرتي لأكثر من شهر ونصف لعدم رغبتي في الحركة.. تصور ظللت فترة طويلة أشعر بخجل من النظر في المرآة، كنت أشعر أن وجهي قبيح).
لم يكن نجم معارضا للنظام أو لعبد الناصر قبل ( 5 يونيو) .. كان يعمل وقتها مع يوسف السباعي في منظمة التضامن الأفرواسيوي..( كان عبد الناصر يبني مصر، والجيش ، كنا نشاهد سنويا العرض العسكري ، نشاهد الصواريخ التي تكسر أصواتها زجاج الأبواب والشبابيك، وكان يبني المصانع التي تباع الآن، كل هذا جعلنا نصدق عبد الناصر ، ولا نرفع أصواتنا بالنقد).
التحول الرئيسي في قصائد نجم بدأ بعد ( النكسة). قبلها كانت قصائده التي غناها الشيخ إمام أقرب للرومانسية منها إلي النقد السياسي الحاد ومن بينها : ( أنا أتوب عن حبك) ، و(ساعة العصاري) ، و(عشق الصبايا) ، بل إن نجم يتذكر أيضا أنه كتب قبل النكسة مباشرة بثلاثة أيام قصيدة ( رسالة) نشرتها مجلة آخر ساعة وقتها يستلهم فيها ما قاله عبد الناصر في إحدي خطبة: ( مستعدون للذهاب مع أمريكا إلي آخر المشوار ولسنا أقل من شعب فيتنام ).. كتب نجم قصيدته : ( واه يا عبد الودود/ يا رابض ع الحدود / ومحافظ ع النظام / كيفك يا واد صحيح / عسي الله تكون مليح/ وراجب للأمام / ع اجولك وانت خابر / كل الجضية عاد / ولسه دم خيك / ما شرباش التراب / حسك عينك / تزحزح يدك عن الزناد / خليك يا عبده راصد / لساعة الحساب)... بين هذه القصيدة التي رضخ فيها نجم لجهاز الدولة الدعائي الضخم وبين قصيدته ( يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار) التي تلت النكسة _ خمسة أيام تقريبا، ولكنها ليست كذلك فنيا... يقول نجم : قصائدي التي أقدم فيها نقاد حادا للسلطة قبل النكسة كانت قليلة جدا، أشهرها ( كلب الست) ... والحكاية أن مجموعة شباب كانوا ماشيين في الزمالك ، وفجأة هجم كلب علي أحدهم ، فذهب إلي القسم لتحرير محضر بالواقعة، وفي النيابة ثبت إن الست أم كلثوم هي صاحبة الكلب، وصدرت تعليمات للجميع بإيقاف أي إجراءات ، وقام وكيل النيابة بحفظ المحضر وذكر أغرب حيثيات للحفظ: ( حيث أن الخدمات التي أدتها أم كلثوم للدولة كفيلة بأن تعفيها وكلبها من المسئوليات الجنائية فقد قررنا حفظ التحقيق). وفوجئت أن جريدة الجمهورية نشرت حوارا مزورا مع الضحية يقول فيه : (أنا سعيد لأن إللي عضني كلب أم كلثوم).. فقررت أكتب هذه القصيدة الحادة ضدها رغم أنني كنت من عشاقها.
ولكن التحول الفني بدأ بعد النكسة..يقول نجم: ( بالتأكيد ، قبل النكسة تقدر تقول كنت علي القشرة، في المنطقة البرانية، كتبت قصائد الحب إللي غناها الشيخ إمام، ومكنتش هأكتب حاجة غير كده، احنا كلنا في الفترة دي كنا بنحلم ، وطايرين من الفرح، وعبد الناصر بيحارب أمريكا وإسرائيل، ويحكمنا لكن بالخطب. مكناش واخدين بالنا ، ولا ادونا فرصة لنعرف دولة إسرائيل. ولكن بعد النكسة خلاص مكنش فيه داعي إن الواحد يسكت، هما كانوا مستغفلينا، ولكن مفيش داعي أستغفل أنا نفسي).
طوال الحوار معه كنا نسمي ما حدث ( نكسة) وأحيانا هزيمة) .. لم يكن هناك استقرار علي اسم ... سألت نجم: ماذا تسمي ما حدث ؟
أجاب: هي نكسة وهزيمة، حاجة كدة زي يوم القيامة، فعلا عبد الناصر ضحك علينا كتير، وإحنا كنا مصدقينه ، لو كان عندك أخ في البيت واتحبس سواء كان أخوان أو شيوعين مكنتش تقدر تقول : ( أخويا) ..كان لازم تنفي أي علاقة بينك وبينه).
ولكن من المسئول عن الوصول لتلك الحالة ... هل تتفق مع البعض ممن يقولون أن صلاح جاهين خدر الشعب بقصائده... ؟
يحتد نجم : (لا أتصور أن يكذب صلاح علي الشعب المصري لحساب أي شخص ، لأنه طفل الشعب المصري، ومجمع مواهب، يعني لما يقول ( نفوت علي الصحرا تخضر) ... هل كان دا كذب؟ لا... دا حلم جميل. صلاح عاشق لهذه البلد ، دايب فيها، إزاي يكذب وهو صاحب ( علي اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء ) دي قصيدة ما يكتبهاش إلا شاعر ( سافل) بالمعني الجميل للكلمة، ودي حاجة ميعرفهاش إلا أهل الصنعة، تقدر تقول : صلاح جاهين عليه السلام.. وبس).
ربما هذا العشق هو ما جعله يتوقف عن الكتابة؟ يجيب نجم: كلنا كنا مصدقين عبد الناصر، صلاح توقف واكتئب بعد النكسة، وأنا كلي اتكسرت، فقدت الاحساس بالدهشة، ومازلت حتي الآن فاقدا للدهشة، وكتبت قصائدي الحادة لأعبر عن هذا الإحساس ، إنما في رأيي أن اعترافات صلاح الحقيقية في قصيدته (علي اسم مصر )، هي قصيدة اعتراف وانتماء وعشق لهذا الوطن.
كان نجم قد شرع منذ فترة في كتابة روايته الأولي ولكنه توقف عن استكمالها منذ فترة، بعد إصابته باكتئاب ... لماذا الاكتئاب بعد مضي أربعين عاما علي النكسة؟ قال ساخرا: (إحنا دلوقتي اكثر من 67 ). لم يوضح ولكنه أضاف: بعد 67 فقد عبد الناصر الكاريزما التي تميزه، عندما نظرت في عينيه كانتا منطفأتين ، ومن وقتها بدأت أفقد تعاطفي معه. الآن يردد نجم دائما بيت بيت شعر قديم: ( دعوت علي عمرو فمات فسرني/ وعاشرت أقواما بكيت علي عمرو)!
المصدر :أخبار الأدب
2/6/2007, 17:34
