سيد حجاب:
لم يكن هناك غير زاد الشعر
محمد شعير
قبل شهور قليلة من نكسة يونيو ، خرج الشاعر سيد حجاب ونخبة من أبرز المثقفين المنتمين إلي اليسار من سجون عبد الناصر التي دخلوها بتهمة الانتماء إلي تنظيمات سرية. وكان الافراج عنهم متزامنا مع زيارة سارتر وسيمون دي بفوار لمصر، قبل أن يخرجوا استدعي شعراوي جمعة ثلاثة منهم لمناقشتهم في ظروف اعتقالهم ، فذهب إليه حجاب ، والأبنودي ، وكمال عطية. أمام شعراوي جمعة تحدث حجاب _ كما يقول­ ( عن نمو القطاع الخاص داخل القطاع العام ، مما يهدد بقيام ثورة مضادة ضد المنجزات الناصرية) ، أما الأبنودي فقال: (رغم أن النظام يقول بالاشتراكية إلا أن الفصيل الوحيد المقصي عن العمل الوطني هو الاشتراكيين). استمع وزير داخلية عبد الناصر إلي ملاحظات المثقفين وقال : ( إنه يعرف كما أن الرئيس يعرف كل ما قالوا..ولكن طبيعة المرحلة تقتضي ذلك).. خرج حجاب ورفاقه من المعتقل مدركين أن مصر ستدخل مع نهاية خطط التنمية الأولي في مواجهة مع ( أمريكا) ، وكان يشعر أيضا أننا مقبلون علي ( ثورة مضادة) من خلال المراكز التي احتلها أصحاب المواقع السياسية المتقدمة في إقتصادنا.
هذه الحكاية يحكيها الشاعر سيد حجاب متحدثا عن الظروف التي سبقت النكسة التي شكلت جيل الستينيات فيما بعد. حجاب لم يكن يتوقع الهزيمة كما حدثت : ( كان لدينا احساس أننا قادرون علي إمكانية أن نعبر هذه المحنة ، وهو ما كانت توحي به الكلمات الواثقة الصادرة من القيادات السياسية والاعلامية) . يبتسم حجاب قبل أن يكمل : ( طبعا فكرة( بكرة ميعادنا في تل أبيب ) كان فكرة طوباوية تكاد تكون عبثية، لكن علي الأقل كنا ندرك أن مقبلون علي انتصار ما).
عندما بدأت المعارك انخرط الشعراء في كتابة قصائد تحاول أن تحشد الجماهير، كان حجاب يكتب شعارات تلقيها أمينة رزق وعبد الله غيث في الإذاعة، كانت الشعارات تدعو الجماهير للاحتشاد ومواجهة الهجمة الاستعمارية دون خطابية . لا يتذكر حجاب أي من هذه الشعارات الآن ولكنها كما يقول ( ليست علي أيه حال مثل شعارات أحمد سعيد). في ذلك الوقت كان يقيم حجاب في بيت لمجموعة من الراهبات، يظل في حديقة الدير نهارا يكتب ، وفي المساء يتجه إلي الإذاعة حتي جاءته إحدي الراهبات لتخبره : ( سيد أنا سمعت أخبار مش كويسة، بيقولوا إن الطيران المصري كله اتدمر). لم يصدق حجاب ما سمع ، ولكنه خرج باتجاه الاذاعة، وفي المترو كان لدي جميع الركاب احساس مر بأن الهزيمة موشكة، وعندما ذهب إلي الإذاعة بدأت الأمور تتكشف له.
حالة من الارتباك أصابت الجميع، وخاصة أن الشائعات بدأت تملأ البلد: ( شمس بدران انقلب علي عبد الناصر وشكل حكومة جديدة قادرة علي التفاوض مع الأمريكان) .. كانت هذه واحدة من الشائعات التي نفاها إعلان عبد الناصر أنه سيلقي خطابا هاما للأمة.
مع الأبنودي وعطيات الأبنودي ، وغالب هلسا، ذهب حجاب إلي منزل صديق كويتي : (عبد الله المسعود) ليسمعوا إلي ما يقوله عبد الناصر ، كان لدي الجميع احساس بأن هناك شئ غامض يحدث في البلد. حين أعلن عبد الناصر تنحيه: انخرط الجميع في بكاء ( بكاء اليتامي.. إذ كيف يتخلي الأب عن أبنائه) حسب وصف حجاب، الوحيد الذي لم يبك كان غالب هلسا الذي سخر من دموعهم ( بتعيطوا علي إيه .. بكرة المظاهرات حتخرج في العواصم العربية تطالبه بالعودة). وقبل أن ينهي هلسا كلماته ،كان رجل عجوز يقف في البلكونة المواجهة صارخا : ( لا لا............) وما هي إلا دقائق وكانت الجماهير تخرج تطالب عبد الناصر بالبقاء!
لم تكن المظاهرات مرتبة؟ يجيب حجاب: بالتأكيد ، لا يستطيع أحد قيادة الجماهير بهذا الشكل، الاتحاد الاشتراكي نفسه كان اتحادا ورقيا ، لم يكن تنظيما يستطيع قيادة الجماهير، وإنما هو تنظيم بيروقراطي قدراته علي النقاشات داخل الغرف المغلقة أكبر بكثير من قدراته علي التأثير في الجماهير).
سألته : ألم يكن هناك ( غرابة) في موقفكم تبكون علي عبد الناصر وتطالبونه بالبقاء وأنتم خارجون من سجونه؟ يقول حجاب: ( كنا نري عبد الناصر بطلا وطنيا يقف في وجه الإستعمار، ولكن كنا كتنظيم يساري نري فيه الخصيصة التي يتحدث عنها ماوتسي تونج: ¢ يتحالف مع الجماهير الشعبية ليقف في مواجهة الإستعمار، ولكنه إذا رأي أن مصالح طبقته مهددة يمكن أن يهادن الاستعمار ليضرب الطبقة الشعبية¢ ).
لم يكن في تلك الفترة كشعراء _ كما يقول حجاب ­ إلا زاد الشعر نحاول أن نشحن الشعب ليلتف حول أحلامه، حتي ينخرط في حرب تحرير حقيقية. وكانت البداية بقصيدة ردا علي الكتابات التي ظهرت بعد النكسة التي تري عدم قدرتنا علي مواجهة أمريكا، فكتب حجاب قصيدة التي يقول فيها: (الشعب الشعب الشعب الشعب/ الحزب الحزب/ الحرب الحرب/والله ما حيداوي جرح النكسة المر الصعب/ غير حزب الشعب وحرب الشعب). رغم شهرة هذه القصيدة وقتها إلا أن حجاب فقدها، ولم يكن لديه نسخة منها، طوال السنوات الماضية، فوجئ منذ شهور بأحد أصدقائه القدامي الذين هاجروا إلي أمريكا يخبره أنه يحتفظ بنسخة منها.
وكتب حجاب في العام ذاته قصيدة ( 21 طلقة في العيد) حيث جاء عيد الأضحي في هذا العام موافقا لعيد رأس السنة، فكتب القصيدة التي تكونت من 21 مقطعا..من بينها: (وقطعنا آخر ورقة في نتيجة العام الماضي/ كان العام الماضي قاضي / جدته سروال مومس/ عمته سوتيان/ في يمينه سيف القهر المرشوق الماضي/ وفي شماله سيف العهر العريان السكران/ قاضي ومتربع علي البركة/ حكم القاضي علي شيخ الجامع يتوضي في حيض النسوان/ حكم القاضي علي الوز الأخضر يتحمي في وحم البركة/ وحكم علي بلدي الولادة تحبل بالكلمة وبالضحكة/ ولا تولدش في سنتها غير خصيان). ومن مقاطع القصيدة أيضا: ( حاجة تضحك ..قال السنكي/ قالت سينا/ حاجة تبكي). أما اشهر مقاطعها الذي تداوله الطلبة في المظاهرات: (خايف لو شفت في ليلة إللي اسمه النصر/القينا كسبنا سينا بس خسرنا مصر).
حتي عام 1966 كان النقاد يعتبرون سيد حجاب ( شاعر المثقفين الذي يكتب بالعامية) حيث تتوافر في قصائده إحالات ثقافية معرفية كثيرة، قصائد يختلط فيها الواقع بهامشه السحري، وهو ما عرف فيما بعد بالواقعية السحرية... كان هذا شعر _ كما يقول ححاب ­ تقف حدوده عند حدود المثقفين، لا يصل إلي أسفل إلا في بعض الأغنيات القليلة التي كتبها في ذلك الوقت مثل (يا ما زقزق القمري علي شجر الليمون) ولكن بعد النكسة اختلف الأمر تماما: ( كان هناك ضرورة لمخاطبة الناس بشكل مباشر وواضح ، وهذا استدعي بالضرورة تغيير التقنيات التي كنت استخدمها، للنفاذ المباشر إلي قلب المتلقي).
في تلك الفترة أيضا تعرف حجاب عن طريق محمد جاد علي نجم والشيخ إمام الذي طلب منه أن يكتب له أغنية فكتب حجاب قصيدة (حطٌه يا بطٌه يا دقن القجطٌه / بابا جاي و شايل الشنطه / إيه في الشنطه .. فيها ما فيها ../ غش وبولتيكا وأونطه / حطٌه يا بطٌه يا دقن القجطٌه.. / حاكم بابا شجغلته ضابط / ضابط هابط .. شابط لابط / راجع ساقط / نازل شافط .. طالع لاهط / عجمره ما فكٌر فكره وصابت / عجمره ما نبٌت زرعه و طابت / يزرع سكر يطلع شطٌه / حطه يا بطه يا دقن القطه).
لم تكن صدمة الخارجين من سجون عبد الناصر كبيرة بعد الهزيمة مثل صدمة هؤلاء الذين انخرطوا بالكامل في الدعاية لنظام الدولة وكانوا جزءا منه.. يقول حجاب:( كنا كتنظيم نؤمن بأن حل المشكلة المصرية يبدأ بالديمقراطية الثورية، وبالتالي لم تكن الانكسارة التي حدثت لدينا بفداحة الانكسارة لدي المنخرطين بالكامل في النظام).
هل يمكن أن يكون صلاح جاهين واحد ممن يقصدهم حجاب بالمنخرطين تماما مع النظام؟ يجيب حجاب: ( وضع المسألة بهذا الشكل فيه تجني شديد علي الرجل، هو كان مؤمنا بقيادة عبد الناصر، وأتذكر أنه أسمعني القصيدة التي يقسم فيها ( بجرح قديم في جبين عبد الناصر), قلت له: أليس هو الذي سجن أخوك فؤاد حداد، أليس هو الدكتاتور؟ ) أري نفسي الآن وقحا في التعامل معه.. ولكنه تقبل ما قلت وأوضح لي : ( حاول تفهم جمال ، هو قدم أكتر من إللي احنا قدمناه كشيوعين، حط 8 ساعات للعمل في برنامجه ، وإحنا كنت بنحط عشر ساعات وأكتر، وهو الذي طرح فكرة مشاركة العمال في مجالس الإدارة ولم نفكر نحن فيها). عبد الناصر وجاهين حلما الحلم ذاته، ولكن عبد الناصر سبق، ولذلك التحق جاهين بعبد الناصر، بفارس حلمه، مش من موقع العميل ولا المرشد).
ربما لهذا السبب كان انكساره صلاج جاهين شديدة بعد الهزيمة؟ سألت ؟ ولكن حجاب يرفض الأمر ويؤكد أن ( النكسة كانت بداية انكسار جاهين ، ولكن الانكسارة القاتلة كانت في كامب ديفيد). يوضح حجاب فكرته: ( بعد النكسة لم يتوقف جاهين عن الكتابة مطلقا، كتب قصائد كثيرة جميلة، مثل ( بحر البقر)، (ما قلت لك يابني انت وهو..) ولم ينسحب من الحياة ولا من الحلم، حتي عندما تعرض للهجوم الشديد علي يد بعض المراهقين السياسين بعد فيلمه ( خلي بالك من زوزو)، بالرغم من إطار الفيلم الذي يبدو ( هازلا) وبسيطا إلا إنه عمل فني جميل علي كل المستويات، بل هو نوع من النضال للحفاظ علي روح هذه الأمة ، وما فيها من عشق للجمال. النكسة الحقيقية لجاهين ، وانسحابه من الحياة بدأ مع كامب ديفيد، وهذه الانكساره عبرت عن نفسها في قصيدته الشهيرة ( علي اسم مصر).
قصيدة حجاب ، أو نبوءته التي اتخذها المتظاهرون شعارا بعد النكسة( يا خوفي ...... ترجع سينا وتضيع مصر) تحققت بالفعل ، عندما تحولت ( الهزيمة العسكرية) إلي ( نكسة) مدت ظلالها إلي المشروع القومي الاستراتيجي الناصري( مشروع الوحدة والاشتراكية والحرية)، وهو ما تحقق بعد أكتوبر 73.. يقول حجاب : ( الانتصار العسكري في أكتوبر 73 محا هزيمة 67 ولكن سرعان ما تم اجهاض النصر سياسيا مع مباحثات الكيلو 101 التي خرج فيها الجمسي باكيا لأن السادات تنازل عن أشياء لا ينبغي التنازل عنها، الانتصار العسكري في أكتوبر محا أثر 67 ولكن الحلم الاجتماعي الذي انكسر هو الذي لم نعد له مطقا، بالعكس وصلنا إلي أننا اصبحنا دولة تحكمها مجموعة شركات متعددة الجنسيات!
المصدر :أخبار الأدب