رشيد يلوحنشر في صحيفة التجديد، بعدد يوم: 4/5/2006 وعدد يوم: 11/5/2006
يقوم هذا المقال على نية كشف شكل خاص جدا من أشكال التعبير الشعري عند المسلمين، عرفوه منذ قرون في مشرق الأرض ومغربها، وجدناه يحضر في الشعر الأمازيغي قديمه وحديثه، كما وجدناه يروج بقوة في الشعر الفارسي يخدم قضايا الحكمة والمعرفة والإنسان، إنها تجربة عميقة في جذورها رائدة في أهدافها وممتعة في صورتها، إسلامية في هويتها، لاهي بشرقية ولاغربية، نغتنم هذه الفرصة لنقف معها من أجل الذكرى والتدبر. حينما نتحدث عن اللغة فنحن في الحقيقة نتحدث عن الانسان هذا المخلوق الضعيف بأفراحه وأحزانه بإيمانه وكفره بسلامه وحربه بكل الهواجس التي تملئ صدره، العجلة والأنانية،الخوف من المستقبل والبحث الدائم الكنود عن الطمأنينة، لذلك تبقى لغته مترجما وفيا لمكنوناته وعوالمه الداخلية العميقة، وكما تترسب في باطنها الكثير من الآيات العجيبة تطفو على سطحها إشارات تفسروجهة الانسان.وإذا كانت اللغة كما يقال حصان الفكر والمعتقد، فماذا يعني ذلك الاقتراب الحميمي بين العربية ولغات الشعوب المحتضنة للإسلام؟
ماذا يعني ذلك الحنان الذي نسج بين لغات كثيرة واللغة العربية؟
لقد حقق الإسلام العظيم انسجاما رائعا بين اللغة العربية ولغات الشعوب التي استقبلته باعتباره الدين الجديد إذ لما تمكن دين الله من القلوب أذاب كل الحواجز التي عادة ما تقوم في وجه الوافد، ووجدت لغة القرآن في صدور المؤمنين من شعوب الإسلام الجديدة شوقا وترحيبا كبيرين، فانطلقت العقول في توليد كل ما تستطيعه من أشكال الإبداع المعبرة عن الانصهار في الاسلام وابتكار كل ما يعني الاستقواء بلغة القرآن، كلام الله ومعجزة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هناك معاني كثيرة في الحقيقة نستطيع الاحساس بها لكن يصعب كثيرا التعبير عنها وبسطها بوسيلة البيان، لأنها تختبئ في منطقة حساسة من الوجدان الانساني، المنطقة التي يلتقي فيها الايمان بالفكر والثقافة واللسان، يقول سبحانه وتعالى
(ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين).وإنه لمن دواعي الاندهاش فعلا استمرار علاقة الحب بين اللغة العربية واللغات التي احتضنت الاسلام إلى يومنا هذا، علاقة حب لم تستتطع قرون الظلام والفتن والمكائد أن تطفئها وتفسد التحامها واندماجها. وهي العلاقة التي نلمسها في ارتباط العربية بالأمازيغية في الغرب والفارسية في الشرق. انصهرت هاتان اللغتان منذ قرون في الإسلام واستمر ارتباطهما بالعربية دون انقطاع، والذي يطلع على تاريخ اللغتين سيصادف المحاولات الحثيثة للأعداء من أجل سلخهما عن العربية وإحداث فصل بينهما، جهود ضخمة بميزانيات ومشاريع خيالية يتم صرفها، لكن النتائج تخيب آمالهم وبالتالي يعجزون في فهم سر ذلك الارتباط.
في هذا المقام سنحاول الوقوف مع الأمازيغية والفارسية في مظهرمن مظاهر انسجامهما مع العربية، وهو مشهد لغوي مثير للإنتباه، خاصة وأنه يرد بشكل متشابه في شعر اللغتين ليؤكد على مبدء القرابة والحميمية، وأبى الشاعرالمسلم الفارسي أوالأمازيغي إلا أن يعكس معاني تلك الحميمية والتزاوج بين لغة أرضه ولغة دينه، حميمية تغيب معها خلفية الانفصام والتقابل، إنها روح واحدة حلت في لغتين، تنساب في مفرداتهما كما ينساب الماء الزلال في تفاصيل المروج الزاهرة.
بين العربية والأمازيغية:مع الشاعر بن عبد السميع الرسموكي: استطاع الفقيه أحمد بن عبد السميع الذي عاش في أواسط القرن الحادي عشر الهجري أن يؤلف أشهر قصيدة زاوجت بين العربية والأمازيغية، ذكرت بعض المصادر أن مناسبتها كانت في أروقة إحدى المدارس العلمية بفاس حيث تبارى الطلبة السوسيون مع الفاسيين في نظم قصيدة لن يستطيع الطرف الآخر فهمها، فكانت هذه القصيدة من قريحة الطالب بن عبد السميع، إلا أن المختار السوسي رحمه الله استبعد هذه الرواية في موسوعته المعسول. وأيا كانت مناسبة هذه القصيدة فقد وفقت في تقديم العربية إلى جانب الأمازيغية في حلة جذابة وسياق شيق، إذ تحكي وقائع عاشها الفقيه عندما كان يتنقل بين القبائل في إحدى رحلاته، فهو يصف بمنتهى الدقة أحوال الناس من فقر مدقع وبخل و صراعات مختلفة.ولعل من أجمل ما أبدعه شاعرنا مطلع القصيدة الذي كان ثناء على الخالق سبحانه وتعالى ثم الصلاة على نبيه عليه وعلى آله الصلاة والسلام، قال:
اسم الاله في الكلام إيزوار(سابق)
وهو على عون العبيد إيزضار (قادر)(1)
وهو الذي له جميع تولغتين(الأمداح)
وهو المجير عبده من تومرتين (المتاعب)
وبعده على النبي تازالّيت (الصلاة)
أعظم بها أجرا ولو تاموليت (مرة واحدة)
لقد جمع الرجل هنا بين جمال المعنى ودقته، وتكامل الموسيقى وتناسب الإيقاع، ولا يخفى ما يستلزمه هذا العمل من الجهد والابداع، ولعل توفر أسباب الذهاب والاياب بين الأمازيغية و العربية وانتفاء العوائق النفسية والعقلية هو ما سهل الأمر على الرجل رحمه الله، لذلك نجده ينطلق بكل تلقائية ليمتع إخوانه الفاسيين بعرض أحداث رحلته التي استهلها بسبب خروجه في رحلته، قال:
سافرت دهرا ووصيفي وينزار (اسم خادمه)
في سنة قد قل فيها أنزار (المطر)
والقصد في السفر جوب تيميزار (البلدان)
والسير في خيامها و إيكيدار (الحصون)
فلم نزل نجوب أرضاف أكال (الأرض)
ونقتضي العجب ليلا و أزال (النهار)
حتى حللنا بعد سير أوسان (أيام)
في قرية يدعونها ب أورفان (اسم قرية)
أول ما رأته فيها تيطي (العين)
والظن في لومهم أوريخطي (غير مخطئ)
قوم عجاف نزلو بـ"تاكنيت" (كدية)
قد اقتنوا خوف الضيوف تايديت (كلبة)
وقد نزلنا عندهم تيووتشي(وقت المغرب)
وكلنا من أمسه أوريشي (لم يأكل)
ما رحبوا بنا ولا إيويندي (قدموا)
من القرى شيئا ولا أوسيندي (حملوا لنا)
ويستمر فقيهنا الشاعر في وصف محنته مع أولئك القوم دون أن يضعف تماسك اللغتين العربية والأمازيغية، وفي الوقت نفسه حافظت الصورة الشعرية على وضوحها ومتعتها.وقد يحير القارئ الكريم خاصة الذي يفهم المفردات الأمازيغية في أمرأي اللغتين تقدم الأخرى، هل الأمازيغية هي التي تقدم العربية هنا أم العكس؟ وبصيغة أكثر وضوحا: أيهما تخدم الأخرى في هذا المقام هل الأمازيغية أم العربية؟ لاشك أنه سؤال جدير بالتأمل، إلا أن جوابه في اعتقادنا يبقى حبيس قلب الشاعر ووجدانه، ذلك الطالب السوسي الذي هجر رسموكة في سوس نحو فاس في أحد الأيام من اجل امتياح العلوم، يطوي المسافات طيا سقطت معه الحواجز وعاشت فيه عناصر وجوده في سلام شامل.
مع قصيدة الغريب:حصلنا على هذه القصيدة من خزانة المختار السوسي(2)، وهي لشاعر سوسي معاصر اسمه عبد الله بن إبراهيم البوبكري أنشدها عام 1995م، ويحكي هذا الرجل - الذي يبدو أنه تأثر بمنهج قصيدة ابن عبد السميع-معاناته خلال رحلة قطعها في القفار، ووصف فيها قساوة الطبيعة وشدة السفر وانعدام الزاد، وأشار إلى تباين معاملات الناس، كما أكد فيها على مضامين أخلاقية ووعظية، وتتميز لغة هذا النص باندماج أعمق بين العربية والأمازيغية.
يفتتح الشاعر البوبكري قصيدته بمطلع أثنى فيه على الله سبحانه وتعالى وقابل به مطلع ابن عبد السميع، يقول فيه:
الحمد لله القدير إزوار(سابق)
في قصة الغريب غكي نودرار(فوق الجبل)
وما جرى له غوبريد ياكوكني(الطريق البعيد)
والوعر والقفار دي إجرفني (والصخور)
في قصيدة القرابة والحميمية، التي تتعالق فيها لغتان لاتجمعهما إلا رابطة الدين، مضى شاعرنا الأمازيغي يسرد أحداث رحلته المضنية إذ يقول:
البرد في الجبال إنساكيسني (بات فيه)
والحر في السهول إكلا كيسني(ضل فيه)
وقد يبيت خائفا إغ إجلا (إذا ضل الطريق)
في سبسب الخلاء زوند إغ إخلا (كالمجنون)
كم سار وحده إمون ديسفني (مشى بجانب الوديان)
يشرب ماء باردا أرفني (حتى منطقة إسمها إفني)
ورب ليلة قضاها غودرار نتبقال(في جبل تبقال)
قضاها فوق ربوة زند أيلال (مثل الطائر)
ورب أخرى بتلات نغ أكدال(في رابية أو روض )
بقرب عين ماؤه زوند أسلال (مثل )
نلاحظ أن النص يستعمل مفردات طبيعية وجغرافية متنوعة بشكل متناوب بين العربية والأمازيغية، ونفس الشئ نلاحظه بالنسبة لتوظيف الأفعال والأسماء والحروف، وهذا من ناحية يؤكد مسألة انصهار اللغتين في بعضهما البعض، ومن ناحية أخرى يكشف تمكن الشاعر من اللغتين و مرونته في التعامل معهما والتنقل بينهما شكلا وروحا، الأمر الذي يعكس جانبا من وجدان الانسان الأمازيغي المسلم الذي سقي بماء التوحيد واستغلظ واستوى على سوقه بشمس الاسلام الساطعة، لا حدود هناك ولا وسائط. بعد تصوير الرجل لمشاهد تنقلاته البرية الصعبة، يمر إلى مرحلة أخرى يصف فيها وضعه وحالته النفسية في إحدى ليالي الغربة الموحشة، يقول:
كم ليلة أضاعها في أخربيش (في خربة)
حول الرماد أور إديل أور إفريش(بدون غطاء ولا فراش )
وشمعة بقربه أركاتلا(تبكي)
في ليلة مظلمة أرد يس يلا (يبكي معها)
وخلافا لحالة الشاعر بن عبد السميع التقى الشاعر البوبكري في رحلته أناسا كراما ولئاما، فكان يتأرجح بين مقامي المحبة والكراهية، فعبر عن ذلك قائلا:
وللكريم أفوس إكان أومليل (يدا بيضاء )
عليه في الغربة حتى أمزيل( الحداد )
فمعشر الكرام هان حبنتي (يحبونه)
ومعشر اللئام هان كرهنتي (يكرهونه)
وفي النهاية يودعنا شاعرنا السوسي، بموعظة حسنة قال فيها:
عليك بالفعل الجميل أكرا (ياهذا)
فإن ذلك إفولكي بهرا(جميل جدا)
قد انتهى بحمد الله أفلان (يافلان)
لعل ربنا يهدي يان إجلان(الضال)