بيكاسو ... الفنان العاشق
بابلو رويس (Pablo Ruiz) والمعروف باسم بيكاسو (Picasso) ولد في 25 أكتوبر 1881 م في مالقة بإسبانيا والذى ظل حتى آخر ايام حياته محتفظاً بحيويته وجاذبيته وذكائه وابداعه بسيطاً في مظهره بسيطاً في علاقاته، عازفاً عن الثرثرة، عاكفاً على العمل في مرسمه، أو مستمتعاً بدفء البيت وصحبة الاصدقاء، وكان ابوه رساماً ومعلماً للرسم في اسبانيا ويقال ان اول كلمة نطقها بيكاسو كانت "قلم" والذى معروف عن بيكاسو استخدمه اليد اليسرى فى الرسم ، في عام 1900 سافر لاول مرة من بلدة برشلونة الى باريس، فكان لها تأثير بالغ على افكاره ورؤيته ومزاجه، وهو يخطو على اول طريقه الفني الطويل واخذ يتردد مراراً على باريس في الفترة بين عامي 1900 و1904 وهي الفترة التي توافقت مع ما يسميها البعض "المرحلة الزرقاء" لانه اكثر فيها من استخدام اللون الازرق الشفاف البارد في لوحاته، واختار لموضوعاته افقر الاحياء حيث يقيم "المنبوذون" المعدمون من حثالة المجتمع، فاتشحت لوحاته بغلالة من الكآبة والحزن واثارة الغيظ معاً، اراد الفنان " الانسان" ابرازها وفي هذه الفترة الزمنية ايضاً انجز كثيراً من اعمال الحرف الفنية تحمل كل هذه السمات
في عام 1904 قرر الاقامة الدائمة في باريس واصبح محور الارتكاز أو "واسطة العقد" –بين ناشئة الكتاب والمفكرين وفناني الطليعة ممن سيكون لهم شأن كبير في المستقبل وفي الفترة القصيرة بين عامي 1904و1905 اتخذ فنه منحى جديداً أو مختلفاً فقد توارت من لوحاته الالوان الزرقاء متنوعة الدرجات، لتفسح مكاناً للالوان القرمزية والرمادية والوردية (ولذلك اطلق عليها هواة التقسيم المرحلة الوردية) ودخلت في لوحاته شخوص جديدة كالراقص والبهلوان وخاصة مهرج السيرك، التقى في عام 1906 بالفنان الفرنسي "ماتيس" ومع انه ابدى اعجاباً بلوحات فناني الاتجاه "الوحشي" الا انه لم يتبع طريقة أو اسلوب اصحاب هذا الاتجاه في التعبير والزخرفة اللونية
في الفترة بين عام 1906و 1907 اتجه بيكاسو نحو الفن الافريقي اذ تأثر بالتماثيل والاشكال الزنجية البدائية بينما اثار انتباهه بدرجة اكبر في تلك الفترة ما فاجأ به الفنان الكبير سيزان عالم الفن بلوحته الشهيرة "فتيات افينيون" وفيها تشويه معتمد الصياغة في الشكل، وتتناقض تماماً مع كل القواعد التقليدية في مقاييس الجمال المعهودة آنذاك، فكانت بمثابة ثورة على المألوف، مثل ثورة "الوحشيين" في مجال استخدام الالوان وايحاءاتها واصبحت اللوحة المرسومة غارقة في الغموض، عسيرة على الفهم، حتى من الفنانين التقليديين ومنعت اللوحات الحديثة الاسلوب والاتجاه من الاشتراك في المعارض الرسمية حتى سنة 1937م لامس بيكاسو ذلك كله، وراح يطور ويجدد ويتخذ لنفسه في كل محاولة اسلوباً خاصاً متميزاً سرعان ما القى ظلاله على مدارس الفن الحديث. وفي خريف عام 1907 قام بيكاسو والفنان الفرنسي جورج براك بمحاولتهما التكعيبية الأولى و أقاما معرضهما الأول عام 1911 م باسم " التكعيبية التحليلية " وتعني تجزئة الجسم إلى أجزاء هندسية ومكعبات . إلا أنه بعد مدة أهمل بيكاسو المنظور مضيفاً للأشياء خطوطاً و ألواناً من نسيج الخيال لاستكمال التكوين ، وهنا نشأ أسلوب ( الكولاج ) أي التلصيق الذي شاع استخدامه فيما بعد بين التجريبيين و السورياليين ، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى استدعى براك للخدمة العسكرية وبقي بيكاسو يرسم الوجوه وقرر العمل مع الكاتب المسرحي ) جان كوكتو ) كمصمم للديكور وراسم للستائر . سافر بيكاسو إلى روما وهناك قابل أستاذ الباليه الشهير ( دياجيليف ) كما تعرف على ( بسترافنسكي ) أحدث المؤلفين الموسيقيين في القرن العشرين وعاد بيكاسو للكلاسيكية ... في الوقت الذى ظهرت فيه الحركة الدادئية التي ارتبطت بزمن الحرب العالمية الأولى . و الدادئية هي صراع من اجل التعبير المباشر التي تزعمها( أندريه بريتون ) ( وأراغون وبول أيلول ) . وهنا انتقل بيكاسو إلى تحريفات عنيفة للشكل " جروتسكية " وهو أسلوب ينطوي على إغراب و إغراق في السخرية والتشنيع ، أي القضاء المتعمد على وحدة الشخصية . و ظهر ذلك في أعماله التي ابدعها في اوائل العشرينيات لكنه تأثر ايضاً باتجاه السريالية وان ظل محتفظاً برؤيته الذاتية التحليلية التي عصمته من الجنوح الى اللاعقلانية أو الاستغراق في تصوير الاحلام وما يدور في اللاوعي وكانت بداية لذلك مع لوحته "الرقصات الثلاث" عام 1925 وهي محاكاة ساخرة لاذعة لرقص الباليه الكلاسيكي وقد رسمها في فترة معاناته المؤلمة وتعاسته من زواجه الاول ثم استهواه عالم الاساطير، فانعكست على لوحاته التالية مثل لوحة "الحصان المحتضر" ولوحة "المينوطور" ولوحة " امرأة باكية" في هذه الفترة من اعوام الثلاثينيات انجز اشهر اعماله (العشرين الفا) على الاطلاق، وهي "جورنيكا" لوحة جدارية ضخمة رسمها لتعرض في الجناح الاسباني بالمعرض الدولي في باريس عام 1937 وهي تعبير صارخ مفزع حزين مشمئز عن تدمير القنابل لعاصمة الباسك "جورنيكا"- وهي موطنه الاصلي- اثناء الحرب الاهلية بين سنة 1936-1939 والتي جاءت بفرانكو غالى الحكم المطلق، ثم اتبعها مماثلة في التعبير مثل لوحة "البيت المقبرة" وفي اظهار لبشاعة الحرب وقسوتها المهلكة المخربة وفي هذا الصدد قال بيكاسو: "ان اللوحات لا ترسم من اجل تزيين المساكن، انها اداة للحرب ضد الوحشية والظلمات
ان فن بيكاسو مرتبط وملتزم وملتصق بحياة الفنان نفسه، ويعبر لنا بصدق عن حماسات حياته، وثورات غضبها، ومسيراتها واحباطاتها، ومرارتها. انه يعبر عن ارادة لا حد لها للقوة، فكل شيء يلمسه بيكاسو عليه ان يحوله حالة اخرى، ان يجعله شيئاً خاصاً به وحده لا يتسنى له ان يوجد لولاه حتى ولو اضطر الى ليه واغتصابه وتقويضه. مع ذلك هو حين يهدمه فانه لا يقصد جمع اشلائه من جديد بل تشييد بناء جديد حيث تمنح الاشياء حياة جديدة اكثر اثارة واكثر تعبيراً واكثر استحواذاً من ذي قبل .. وكان ذلك واضح من خلال دور المرأة فى حياته
المرأة فى حياة بيكاسو :
قيل عنه انه كان يستعمل النساء المتعاونات في فنه بالصدفة وإن كانت معاملته من تصيب فقد كان يفعل ذلك من أجل أن يلاحظ عن كثب على وجوههن مفعول الغيرة والهستيريا وألم الهجر ، ثم أنهن قد شكلن أيضاً مواضيع اللوحات الدافئة التي تجسد الاكتمال الجنسي والحب الأمومي
ومن أقوال بابلو بيكاسو الشهيرة عن المرأة انها »إما سيدة أو جارية« وهو ما جعله هدفا لكل جمعيات الدفاع عن المرأة.في عام 1904 وكان بيكاسو في سن الثالثة والعشرين عندما جاء من اسبانيا الى فرنسا وتعرف بعد اربعة ايام من وصولة على »مادلين« ابنة صاحب حانة مشهورة في حينها واستخدمها كموديل للوحة عرفت باسم »المرأة والعذاب« ثم توالت مغامرات بيكاسو النسائية.
فرناند أولفية
في ليلة ممطرة من عام 1904 التقى بيكاسو بامرأة شابة مبتلة من شعر رأسها الى قدمها فصحبها معه الى مرسمه لتجفف ملابسها وكانت (فرناند أولفية) جميلة جدا وذكية ولها موهبة فنية لكن غير نشطة او معروفة بالمجال الفني. كتبت عنها الأديبة الامريكية »جيرترود ستالين« (خيرا او شرا كل شيء في فرناند طبيعيا) كانت عشيقة غيورة جدا وبالطبع أصبحت موديل لبيكاسو لفترة كبيرة وكانت تقول عن بيكاسو وعن علاقاته النسائية المتعددة »انه ينساق دائما وراء الجمال
ايفا
كانت ايفا جميلة جدا وشابة واطلق عليها بيكاسو اسم »كوديا« أي جميلتي تواكبت علاقة بيكاسو بايفا مع تفجير شهرة بيكاسو احبها جدا وكان يقول »احبها جدا وسوف اسجل هذا في لوحاتي« 1912 ينتقل للحياة مع ايفا لكن تقع ايفا الضعيفة صريعة للمرض ولن تسترد صحتها ابدا ماتت فى 1915 ومع ذلك لم يهمل عمله الفنى ورسم لوحة »البلياتشو« كانت كما قال وقتها »في رأيي وفي رأي الكثيرين تعتبر من اجمل ما رسمت«.
ولم يحتمل بيكاسو طويلا غياب ايفا من حياتة فهو وإن كان رائد الفن في القرن العشرين لكن في أعماقه رجل من القرن التاسع عشر رجل اسباني تعود على وجود المرأة في حياته بشكل مستمر
أولجا كوكلوفا راقصة الباليه
يشعر بيكاسو بحاجة شديدة لأسرة فيتعرف على »اولجا كوكلوفا« احدى راقصات فرقة باليه قام هو بتصميم وتنفيذ ديكورات البالية لها ، هي ابنة ضابط كبير في الجيش الامبراطوري الروسي كانت متوسطة الجمال والحال وبالطبع استخدمها كموديل في لوحة باسم »المرأة ذات الوشاح« وجأت صورتها رزينة وعظيمة لدرجة انها قالت عن اللوحة »أجد صعوبة في التعرف على وجهي« تزوج بيكاسو من اولجا في عام 1927
ماري تيريز ولتر
حسناء فاتنة تظهر في طريق بيكاسو شاهدها في المترو فوثب في اتجاهها وقال لها »انا بيكاسو انت وانا سنعمل سويا أشياء عظيمة«.بهتت الحسناء »ماري تيريز ولتر« وكانت في السابعة عشرة من عمرها كانت رشيقة حسناء تمارس السباحة وتسلق الجبال في 1930 استأجر لها بيكاسو شقة في المنزل المقابل لمنزله وعاشت ماري في حالة من الاستسلام وكانت مغامرة نسائية وكانت موديل له لعديد من اللوحات وكذلك ام ابنه »مايا« ابنة الحب كما كان يحب أن يطلق عليها الأب بيكاسو. وبعد ولادة طفلته مايا من عشيقته ماري تم طلاقه من اولجا
تيودورا ماركوفيتش الرسامة
(دورامار) كانت مصورة وفنانة تشكيلية كان اسمها الحقيقي »تيودورا ماركوفيتش« وبسرعة حلت مكان ماري تريز كانت مثقفة وعنيدة وتحب الظهور على عكس ماري تريز التي كانت لا تهتم بالنواحي الفكرية وقد كان بيكاسو يقول لم أكن عاشقاً لدورا مار كنت أحبها كما لو كانت رجلا وكان يقول لها انت لا تجذبيني أنا لا أحبك كما انه لم يترك ماري تريز كان يتردد عليها او يجمعهم في مرسمه ليرسمهم
البرجوازية فرانسواز
»فرانسواز« في الواحدة والعشرين من عمرها من طبقة برجوازية تركت دراسة القانون واتجهت للفن التشكيلي تعرف عليها في مطعم عن طريق صديق ونالت إعجابه جدا وهي بدورها انبهرت بمن يحيطون به جان بول سارتر وسيمون دي فوار واندريه مالرو وجان كوكتو.قال لها بيكاسو فى بداية العلاقة »لا تتصوري ان أتعلق بك طويلا« اما فرانسواز أكدت في مذكرتها »انه لم يكن يخاف على نفسه مني وإنما من التأثير الذي أحدثه عليه«.
تنجب فرانسواز من بيكاسو ولداً يطلق عليه »كلود« وبعد عامين ترزق ببنت »الوجا«.
يعيش بيكاسو مع فرانسواز حياة جديدة يطرق مجال الفخار ويحقق ثراء وكان أول من استغل خامة قديمة وطورها وهي خامة السيراميك
جاكلين روك
في خريف 1952 يتعرف على »جاكلين روك« مطلقة وأم لبنت صغيرة كانت تتحدث الأسبانية مما جعلها بسرعة قريبة من بيكاسو، كانت تعمل عنده في متجر فلوريس لبيع منتجات السيراميك.لفت نظره وجهها الغامض ذو العيون الزرقاء والوجنتين البارزتين، وبطريقة لا شعورية تنضم لدائرة الفنان السحرية لكن دون ان تتنازل عن استقلالها، تزوجها بيكاسو عام 1961 وأهداها قصراً في »قوقنارج« على نهر الرون وأهداها لوحة باسم »جاكلين دي قوقنارج«.وتقسم جاكلين ان بيكاسو كتب لها انها المرأة الوحيدة التي أحبها في حياته.
ومما سبق يتضح لنا ان المرأة كانت فى معظم اعمال بيكاسو واكثرها هي العنصر المسيطر على الاعمال الفنية ، وقد تعامل بيكاسو مع المرأة بطريقة لم تحدث من جانب أي فنان غربي من قبل. فقد كان كل شيء في عالمه التصوري ابتداء من أحلامه وحتى سخريته التي تصل إلى حد الجنون منصبة على المرأة. وقد قام بهذا من خلال الاستعارات وإعادة التشكيل للجسم البشري مثل وضع العيون على الارجل. ليكون الفنان الذى لا يتوقف عن زعزعة النظام الطبيعي، وتكييف العالم ارضاء لرغباته وحاجاته، اكثر فاكثر بالصورة التي تحلو له، فاذا كان هناك فنان جسد الفن الحديث في نظر الانسان العادي فهو بلا شك بيكاسو وحتى اولئك الذين لم تقع ابصارهم على نسخة من اعماله المصورة، صاروا يرددون اسمه شاهداً على كل ما يتصف بالجرأة والتحدي و"الاسراف" في فن العصر الحديث
وفي العام 1937م فى موجان، فرنسا فارق بيكاسو الحياة عن عمر ناهز الـ(92) عاماً وبذلك رحل أحد أبرز رموز الفن الحديث ورائد الحركة التشكيلية في القرن العشرين وصاحب( العشرين الف) لوحة الموزعة في أنحاء العالم كافة