حمدي علي الدين المدير
عدد الرسائل : 1252 تاريخ التسجيل : 15/04/2007
| موضوع: قراءةٌ فى تجربة الشعر الليبى الحديث 12/6/2007, 03:58 | |
| قراءةٌ فى تجربة الشعر الليبى الحديث "قراري: ألا أتخلى عن ذاتى أبداً، أن أمضى إلى أقصى حدود ذاتي. ماذا يفيدنى ساعة موتي، أن أكون قد زيفتُ نفسي" "هنرى دو مونترلان". ما يعنينا فى هذا الكلام هو خصوصيته.. هو هذا التلبس بالذات إلى أبعد الحدود، خصوصيته فى هذا التمسك بالذات إلى اللحظة الأخيرة. من هذا المدخل الصغير نحاول أن نقدم قراءة ولو صغيرة نوعاً ما، إلا إنها تحاول أن تخلق بكلامها عن العموم نوعاً من الشمول. القصيدة الحديثة فى ليبيا تتكيف حالياً مع الذات بشكلٍ جيد. الذات هنا قاسم مشترك لمجموعةٍ كبيرة من التجارب التى تنطوى تحت سقف الشعر الليبي. إذاً القصيدة فى ليبيا قصيدة ذات.. ذات مرهقة.. ذات منتهكة، لكنها على الرغم من كلِّ ذلك فهى ذات ساطعة الحضور عند الجميع، تحاول أن تجعل الذات مركزاً للعالم، القصيدة هنا تعلن انحيازها دائماً إلى خصوصيتها. ربما لأن كثيرين من شعراء هذه التجربة دخل باب الشعر مسكوناً بهم التجريب، فإن كيان القصيدة كان الكيان الأصعب على الدوام. لذلك ظل شعراء القصيدة العمودية والتفعيلة يراوحون بين عدة مستويات من التأثرات المختلفة.. وظل صدى الآخر يتردد فى قصائدهم على طول الخط. بينما ظل شعراء قصيدة النثر "هذا النص المشاكس" يراوح بين مجموعة المؤثرات العربية والأجنبية، فى الوقت نفسه كان النص النثرى يستنسخ نفسه.. مخلفاً إرثاً شاسعاً من نتاج متشابه فى الكثير من الوجوه النمطية التى توفرت فى هذه القصيدة فى إحدى مراحلها، فقصيدة النثر فى ليبيا كتبت بروحٍ واحدة وبأصوات متعددة، لذلك أختار هؤلاء الشعراء أن يقدموا قلوبهم الخفاقة التى تعبر عن ذواتهم دون أن يعنوا بالإطار كثيراً.
* * *
"إن المتتبع لسياق التجربة الشعرية الشابة فى ليبيا سيلاحظ أحياناً فتنتها الشديدة إزاء مغامرة التجريب، وأحياناً تبدو كأنها تكتفى بنفسها وفقاً لمتطلبات لحظتها وشروطها المحلية بحساسية خاصة". يُلاحظ فى تجربة الشعر الليبى إنها فى حالة مخاض مستمر، الأمر الذى يتطابق مع كلام الشاعر مفتاح العمارى هنا. إذ كان النص الشعرى الليبى فى بدايته يجنحُ كثيراً - منبهراً بتجارب غيره- نحو انفعاله الزائد.. كانت فترة الثمانينيات تكبلُ النص أكثر مما تطلق له العنان- خصوصاً فى تجربة القصيدة النثرية - لذلك بدأ يركن فى بداية التسعينيات إلى هدوءه وبساطته، واقترابه أكثر من اليومى والمعاش. نستطيع أن نقول أنه أصبح يركن إلى الذات أكثر من اهتمامه بالأشياء الأخرى. هذا الانهماك جعل الشاعر أن يقولب علاقة هذه الذات بغيرها من الأشياء. نلاحظ هنا تجربة الشاعرعلى صدقى عبد القادر تجربة استطاعت أن تكرس نفسها عبر امتداد زمنى طويل، وتركن فى بداية التسعينات على نمط شعرى متميز يصوغ الذات بطفولةٍ مطلقة وبأسلوب يتقرب من اللعب اللذيذ. ونلاحظ كذلك أن نتاج شاعر مثل مفتاح العمارى كان كبيراً جداً، قبل أن يركن فى أواخر الثمانينيات إلى خطوته الواثقة الأولى "قيامة الرمل" ليتوج تجاربه الذاتية فى مجموعة من الدواوين. مروراً بتجارب شعراء فاعلين فى التجربة كانت فترة نضجهم مرحلة التسعينيات، وإن صح لنا القول هنا فإن تجربة الشعر الليبى كانت تحاول إنتاج خصوصية من خلال إنتاج علامات فارقة فى مسارها. ونظراً لخصوصية قصيدة النثر كشكل شعرى مغاير عند أغلب هؤلاء الشعراء، فإن هذه القصيدة ظلت المعيار الدائم لقياس الحركة الشعرية فى ليبيا رغم وجود قامات فى شعر التفعيلة والعمودي. قصيدة النثر هنا ظلت تحاول أن تصنع إرثاً خاصاً لها فى ظل غياب مرجعية تراثية أولاً. وفى ظل حضور تجارب شعراء معاصرين عرب حاولوا أن يجعلوا قصيدة النثر كياناً مغايراً، ثانياً. نلاحظ هنا أن قصيدة النثر التى بدأت متعثرة فى بداية الثمانينيات صنعت فى منتصف التسعينيات تماماً رصيداً مناسباً من التجربة، ونتاجا نستطيع أن نقول عنه أنه ينتمى إلى خصوصية ليبية. فشعر التسعينيات الليبى يركن إلى قلقٍ لطيف، يحاول يطرح التخبط الذى صاحبه خلال عقد الثمانينات. بينما يظل شعراء القصيدة الحديثة العمودية يبحثون عن شاعرٍ بحجم كبير جداً، يعطى التجربة غنى ضرورى هى فى أمس الحاجة إليه، على الرغم من توفر الثقافة العالية والتمكن اللغوى والفكرى العالى المستوى عند أغلب شعراء القصيدة العمودية الشباب. نحاول فى ختام هذه المقدمة الصغيرة أن نلخص بعض سمات تجربة الشعر الليبى الحديث: أولاً، انفتاح الشعر الليبى على التجارب الشعرية العربية الرائدة، أعطاها الاتساع ولم يعطها العمق، فهى أخذت من الشعر العربى العديد من المزايا، وحاولت القفز على العيوب، فتجربة الشعر الليبى ظلت دائماً ضفاف للتجربة العربية، ولم تشارك فى رسم الخطوط الرئيسية لها. ثانياً، القصيدة الحديثة فى ليبيا لا تركن إلى أساطير ذات خصوصية ليبية، ولا تستند على مخزون أسطورى كبير، لذلك نلاحظ تناثر الإشارات الأسطورية المستوردة من أساطير عربية. ولقد تأثر شعراؤنا بشعراء الشرق الى حد التناص سواءً على مستوى الشكل أو المضمون. وفى نهاية الستينات كان أحد النقاد كتب ليقول أن الشعر فى ليبيا بعد انفلت خارج حدود الوزن والصورة الشعرية العربية تحول إلى شعر "نواقيس وصلبان". ثالثاً، الشعر فى ليبيا ينتج قصيدة وليس شاعراً، بمفهوم الشاعر الظاهرة، الذى يتبنى مشروعاً شعرياً متكاملاً، فالغالب فى شعراء ليبيا هو ممارسة الشعر ببعض النـزق، والغالب يظل فى خانة الموهوب فى تعامله مع نصه دون أن يدخل مرحلة الاحتراف. رابعاً، القصيدة الحديثة "قصيدة الشباب" تتنوع بتنوع الأصناف الأدبية، فالشعر العمودى موجود بجوار شعر التفعيلة وقصيدة النثر. من هنا فالشعر يتجاور بكل أصنافه وتتداخل مع بعضها. خامساً، فى الشعر الليبى تنعدم التيارات والأجيال الشعرية التى تستمد شرعيتها من واقع ثقافى متقارب، فتجربة الشعر الليبى تجربة تنتج نصوص أكثر من كونها تنتج شاعراً. كذلك تظل تجربة الشعر الليبى تجربة انقطاع وليس اتصال، فالأجيال الحالية التى تمارس كتابة الشعر، لم تستفد من تجربة الجيل السابق، بل تظل المؤثرات العربية هى الغالبة عند جميع الأجيال، فمن تأثيرات "بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي" على شعراء الستينات، نجد تأثر شعراء قصيدة النثر الليبيين بدرجات متفاوتة خصوصاً فى بداية تعاطيهم لكتابة الشعر برواد قصيدة النثر فى المشرق العربي. سادساً، القصيدة العمودية الحديثة فى ليبيا تقتربُ من الذات كثيراً الأمر الذى يجعل من أغراض الشعر العمودى السابقة تختفى وراء سطوع الذات الواضح، وبالتالى تختفى بعض أغراض الشعر العمودى التقليدى "هجاء، مديح، رثاء،.. "، نتيجة قرب التجربة الذاتية الكلى من المبدع. سابعاً، تسعينات القرن العشرين، كانت مرحلة تطور نوعى فى النص الليبي. فبالدرجة الأولى دخلت أصوات شابة جديدة مجال الكتابة الشعرية مسكونة بنشاط محموم، كذلك لوحظ نشاط ملحوظ لأصوات شعرية من عقود السبعينات والثمانينات توجت مشوارها الشعرى خلال هذا العقد. ثامناً، النص الشعرى الليبى الحالى نص ذاتى متناهى الشفافية لا يركن إلى الغموض، بل يقترب من المتلقى بصورةٍ مدهشة مُصراً على التفاعل مع اليومي، وقصيدة المشاهدات التى تحاكى الواقع.
عبدالباسط أبوبكر محمد * شاعر وكاتب من ليبيا.
نقلا عن صحيفة العرب اللندنية | |
|