في رواية واحة الغروب بهاء طاهر يبحث عن ركام الإسكندر الأكبر في واحة سيوه
في رواية «واحة الغروب» بهاء طاهر يبحث عن ركام الإسكندر الأكبر في واحة سيوه الروائي الكبير يؤكد أن السلطة الغاشمة «دبة» تقتل صاحبها الرواية تبحث في مغارة العالم العربي المعتمة التي تحوطها الأفكار المتكلسة حيث كل شيء مقموع بالخرافة فؤاد قنديل أنا بالذات أكثر من يفرح لأن الفرح مستمر بصدور هذه الرواية البديعة لكاتب عزيز وقدير بكل ما للكلمتين من معان، ليس فقط بسبب إعجابي اللامحدود بالنص الأدبي الذي يشع بهاء، ولكن لأن بهاء طاهر طهرني من ذنوبي إزاء واحة سيوة التي زرتها قبل عشرين عاما وشرعت في إعداد روايتي عنها، وزرتها بعد ذلك مرتين، واشتغلت عليها متفرغا عدة أشهر ثم توقفت بعد أن قرأت له «أنا الملك جئت» وبعد سنوات عادت تستحثني وتجذب التفاتي وتحرضني بشدة للعودة حتي استجبت وعكفت عليها شهورا ثم توقفت فجأة بعد أن قرأت «الخيمائي» التي كتبها باولو كويلهو وترجمها بهاء بعنوان «ساحر الصحراء» لأن تماثلا نسبيا «في رحلة البطل» كان قائما بين مشروعي الروائح وتلك الأخيرة وأدركت عندئذ أن الواجب يقتضي إغلاق الملف تماما وصرف النظر عنه لكن سيوة الحبيبة تلك البقعة المميزة مكانا وزمانا، وطبعا، وسمتا ووهجا أسطوريا والمالكة لقدرات إلهامية لافتة ظلت تراودني وأنا أردها بثقة وواصلت هي برغم جفائي تجاهها محاولات التحرش والاستثارة حتي ألقت في روعي ووجداني إحساسا عميقا بالذنب لأن ما كنت قد وعدتها به في روايتي كان يرضيها في ظني فنيا وإنسانيا، وأخذتني العزة فأبيت الإذعان للغواية وغلب الإباء العشق، وقررت طي الصفحة وتحمل نحر الذنب بأعماقي، الذي يصل حد الإحساس بخيانة سيوة حتي تفجرت علي الساحة رواية «واحة الغروب» وهي عين ماء تتمتع كصاحبها بعذوبة لا مزيد عليها فغسلتني وطهرتني وهاآنذا معكم أقترب من عالمها الثري ورؤاها الخصيبة. مضي بهاء برهانه إلي تلك الواحة التي مال إليها من قديم كما أشرت وكما ملت فاستنطق دروبها وتاريخها وهواءها وصلادة أحجارها وسرت معه متلهفا لقاء البشر والحجر والنخيل والمعابد وأطرافها المغلقة الحاضنة لأسرارها المختنقة في شالي وأغورمي والجوبة وجبل الموتي وجبل التكرور والحدائق المتشابكة المحتشدة بأشجار الزيتون تتسلل من بينها قنوات صغيرة ورفيعة تسقي بالكاد ولا تغرق. استطاع الكاتب البناء في صبر ودأب وحب أن يقيم عمارة فنية متماسكة وشفافة صرح جميل نستطيع ونحن نقرأ الطواف به وتأمل كل ما بداخله فهي عمارة زجاجية غير قابلة للتهشم أو الانهيار برغم ما يجري بداخلها من صراع ودموية وأحقاد ونزعات مريضة واضطراب وتربص وزيف ثم تفكك وتحلل وانهيار في نسق فني عميق ومتطور لا يكف عن التقليب في مادته العامرة بالتناقض الذي ينتج الأسئلة المسننة أسئلة تعرف طريقها للأرواح المعذبة فتقبض بمخالبها علي السراديب المفضية إلي الموت والحياة. هي واحة للغروب لأنها من حيث المكان أبعد نقط غريبة في أرض مصر، وهي كذلك لأنها شهدت غروب البطل وغروب علاقته مع زوجته وغروب علاقته مع السلطة وغروب تاريخ متألق وغروب متوقع لحقب من الخرافة وثمة أشكال أخري من الغروب تتجدد مع كل قراءة. لقد تحققت شفافية المعمار من اختيار بنية المعمار ذاتها وهو الذي ارتضي له الكاتب أن يعتمد علي النسق الصوتي الخاص «رواية الأصوات» حيث تتاح الفرصة لكل شخصية أن تعبر من وجهة نظرها ـ عن جانب من الأحداث دون تكرار وإنما استكمالا لما يطرحه غيرها ـ وأحسب أن هذا اللون من أشكال البناء هو الذي أتاح درجة عالية من الصدق من ناحية وهو مطلب رئيسي في الإبداع القصصي، كما وفر مساحة عريضة وعميقة من المونولوج الذي استبطن أغوار النفوس، واستنطق الكامن من الأطماع العقد وشتي الظنون، وكان المونولوج بذلك في زعمي مرة أخري البطل الحقيقي لهذه البنية الروائية المميزة ولعل هذا ما دعاني لوصفها بالزجاجية التي تعين القارئ علي اتخاذ طريقه بين الشخصيات والأحداث لكنها أعلي وأرفع من أن تكون وسيلة لتسطيح المفردات الروائية وكشفها إذ لا يزال للرواية غموضها العذب وشجنها وعزف نايها الذي يمنح من أعماق أرواح تتقلب علي بقايا جمر مدفون. البطل محمود ضابط شرطة تم تكليفه لتولي الإشراف علي قسم شرطة سيوة في أواخر القرن التاسع عشر وقد اختار الكاتب بذكاء تلك الفترة التي كانت الواحة لاتزال غارقة في سباتها داخل أسوار تقاليدها التي بدأت تتحلل مع الأيام وتفقد وهج بللورتها الآسرة كقطعة من تاريخ قديم وصحراء منعزلة يتمني الكثيرون بشغف زيارتها، وتأبي الدروب الوعرة أن تحقق لهم الأماني. أتصور أن ركنا ركينا من النقد يجب أن يتوقف طويلا عند اختيارات أي كاتب قصصي وفلسفتها. الضابط متزوج من أيرلندية عاشقة للعلم تفرح بالتكليف وبالوظيفة ويتوجس البطل لكنه بالأمر يمضي إلي بقعة تتواري في عمق التاريخ والجغرافيا وسرعان ما تتصادم الأطراف وهي مراد الكاتب ومبتغاه.. السلطة والأهالي والعادات الراسخة التاريخ الذي يطل برأسه وتبحث الزوجة في ركامه عن قبر الإسكندر أحد أهم أبطال التاريخ ولكل طرف تفصيلاته المعقدة وخيوطه المشتبكة وجاء بهاء ليمسك بكل ذلك بعد تأمل طويل محاولا النظر إلي الواقع المعاصر عبر هذه المعطيات ويعيد إنتاج الصراع بصورة تشي بما كان وما يحتدم به الحاضر دون أن يتنكر لأحداث حقيقية أو يختلق أسطورة جديدة تماما مكتفيا بالواقع وهو أسطوري حريصا علي أن يصبح إنتاجه الفني نفسه محاولة ذات بعد أسطوري إذ تمتلك كل أدوات الصنعة الروائية الباهرة حيث تتعانق الفلسفة والتاريخ والسياسة والفن والوطنية ليس ثمة مجال لتلخيص الرواية لأن التلخيص صورة فوتوغرافية باهتة لمعلم معماري فاتن، واكتفي بالإشارة إلي الفلسفة التي تكمن وراء العمل الذي طمح أن ينفذ بين أضلاع مرعبة هي... الجهل والخرافة والعنف.. إنها الأضلاع التي تقبض علي تلابيب عصرنا العربي الممسوس. تحاول الرواية التي تمثل في ظني ذروة الإبداع الروائي لدي الكاتب الكبير أن تدخل بجسارة ورهافة مغارة العالم العربي المعتمة والتي تحوطها الكثير من الأفكار المتكلسة وتهيمن عليها العقول المتيبسة في هذه المغارة عماليق تتحكم في كنوزها أو أسرارها وتقمع أنهارها عن الجريان ومعانقة الشمس والنور إنها القوي التي تخفي الحقائق تحت طبقات التعفن. في الرواية... كل شيء مقموع بالخرافة التي تستعبد ويقدسونها بوصفها ميراث الأجداد حتي ليستخدمون العنف إزاء من تسول له نفسه المساس بها، وتلجأ السلطة حتي في شخص ضابط مهذب مثل محمود «البطل» إلي العنف ـ وقد تتسم هذه السلطة في كثير من الأحيان بالجهل كما نري في عدم اهتمام محمود بالقراءة ولا بمعرفة التاريخ ولا بزيارة المعابد ولا بمساعدة زوجته علي المعرفة والكشف. في المقابل فإن العلم من ناحيته والتوق إلي الحرية يسعيان للبحث عن الإنسان وإطلاق ملكاته لأنهما السبيل الوحيد للحياة وتطوير شكلها علي الأرض.. العلم ممثلا في كاترين زوجة محمود، والحرية أو طلبها الحرية كما نلتقي بأخت كاترين فيونا، التي يمكن أن ترمز بسلوكياتها إلي الدين والتسامح والحب لكنها دائمة ذابلة وتعاني من أوجاع ثقيلة وتأثيرها محدود لكنها تسعي إلي تحقيق توازن نبيل بين كل الأطراف وها هي كاترين سجينة في بيتها فقد حوصر العلم في الواحة وقتلت الحرية مليكة وتحاول السلطة البطش بالجميع. إن عنف السلطة الجاهلة يدفعها بحماقة لا نظير لها كي تعيد النظام والاستقرار للواحة وتحقق السيطرة الكاملة. إلي تفجير المعبد الذي يشير إلي الماضي العريق ويفتح الباب أمام العلم ليعمل جاهدا للكشف المجهول ويحرض علي النظر إلي المستقبل لكن السلطة الجاهلة لا تقرأ شيئا من هذا إنها تفعل مثل ما فعلت الدبة التي أرادت أن تحمي صاحبها حتي يخلد لنوم طويل وهانئ. إنني ككاتب روائي لا كناقد أحاول أن أتأمل وأغوص في أعماق النص بحثا عن أصابع الكاتب الملهم وهي تسوي علي نار إبداعها وثقافتها تلك الشخوص وتدفع الأحداث، هنا بحذر، وهناك بطيش، وتلقي بهذا الشخص بالذات في هذا الموضع في الوقت الذي يكون فيه الآخر بالذات حيث تصهل النوازع وتتواجه النقائض لعلها- وتكمن هنا عبقرية المبدع - تمضي إلي الهدف الذي ابتغاه ولابد أن هناك أهدافا عميقة وكونية وإنسانية تمور داخل كل خلية من خلاياه كما هي بالتأكيد عند بهاء بدليل أنني لم أقل بعد ما يجب أن يقال عن هذه العمارة الفنية الشفافة التي لم تكن الواحة فيها شاهدة فقط علي «سيوة» وإنما علي واحات كثيرة في مصر والعالم بل واحات أخري في نفوسنا المتهيأة للتصحر تحت ضغط ظلال شائهة، ومجددا شكري يا بهاء فقد طهرتني بهذه الرواية من ذنب كبير.
المصدر : جريدة القاهرة