النبتة الرومنسية في المشاتل العربية (رؤوس أفكار)
ـــ د.الطاهر الهمامي ـ تونس
يُعنى هذا المبحث بالنظر في ملابسات استقبال الثقافة العربية حديثاً للمذهب الرومنسي، وفي خصائص نشوئه وتطوره على أديم تجربتها، ومن ثمة يُعنَى بالإجابة عن أسئلةِ هجرةِ مدرسة أدبية وفنية من منابتها الأصلية إلى أصقاعٍ بعيدة، وفجاج قصية جغرافياً وحضارياً. ولئن كانت الكلاسيكيةُ والواقعية وسائر المذاهب والمدارس الناشئة عند الغرب والقاصدة ربوع الشرق قد شهدت السيرورة نفسها وخضعتْ للأحكام ذاتها فإن الرومنسية كانت أدعى إلى اهتمامنا لما لاحظناه من خصائص نباتها في المشاتل الشرقية العربية ونحن بصدد دراستها أو تدريسها أو الكتابة عن بعض أعلامها وأعمالها.
ويظل الوقوفُ على الخصائص المائزة أمر دونه اجتهادٌ وتدبّر لتقصّي التحولات الطارئة على النبتة الرومانسية المتأخرة، وهي تنشأ في منابتَ غير منابتها الأصلية، وتغتذي بأملاح تربة غير تربتها الأم.
الرومانسية المتأخرة
أولى الخصائص التي ميزت رحيل الرومنسية نحو الشرق ودخولها فضاء الثقافة العربية جسّدها تعدد صيغ تسميتها. فلقد راح مستعملوها بين رومنسية ورومنتية ورومنطيقية ورومنتيكية وغيرها، مراوحة ناجمة عن أمرين أولهما كون المولود غربيّاً والذي يَلدُ هو الذي يُسمي، والثاني هويةُ اللغة التي انحدرت منها، فالرومنسية سليلة الإنكليزية، لغة المحتل البريطاني لمصر وفلسطين والعراق، والرومنطيقية أو الرومنتيكية سليلة الفرنسية لغة المحتل الفرنسي لتونس والجزائر والمغرب والشام.
أما الخصيصة الثانية فهي الوصول المتأخر للرومنسية فقد بدأت في الوفود على البلاد العربية مع بداية القرن العشرين، بعد ما يزيد على قرن ونصف من ظهورها الغربي(1)، وغداةَ فقدانها بريقها عند أهلها وطلبهم غيرها(2). وإلى ذلك، لم تمكث بيننا طويلاً. فقد جاءت على عجل، وشتّان بين الوقت الذي استغرقه مُقامُها الغربي، والوقت الذي قضته في المشاتل العربية(3). ومتى رمنا تفسيراً لهذا التأخر وجب النظر في العوامل التي أخّرت زمان الوصول، وهي ذات طبيعة مجتمعية. فلقد نشأت الرومنسية غداة الثورة الصناعية وقرينتها الاجتماعية، فكانت في جانب كبير منها وفي آخر التحليل بمثابة رد الفعل الاحتجاجي لإنسان ما بعد هذين الحدثين كما كانت نتاجاً لهما ولم تنتقل إلى الشرق وتعرف رواجاً إلا حين توفر لاستقبالها حدٌّ أدنى من الأساس المادي والمناخ الفكري الذي احتضنها غرباً قبل ذلك. أما الأساس المادي فهو عملية التحويل الرأسمالي وأما المناخ فهو مناخ "القيم التبادلية" (بالمفهوم الغولدماني) ومناخ "الحرية" الذي تقتضيه.
ولادة قسريّة
فلقد هبّت الأفكار التحررية على البلاد العربية عن طريق لقاء الشرق بالغرب، سلْماً وحرباً، بما نَشّط فعلَ التثاقف وكانت حركةُ الهجرة الأدبية باتجاه المهاجر الأمريكية والرحلة العلمية والاستكشافية والسياحية باتجاه المهاجر الأمريكية والرحلة العلمية والاستكشافية والسياحية باتجاه أوروبا، كما كان وفود الوفود التعليمية والفنية والثقافية واستقرار الجاليات الأجنبية، سبيلاً إلى انتشار تلك الأفكار ومن بينها ما تعلق بالأدب والنظرية الأدبية الحديثة، وبالتمدن ومفاتيحه.
بيد أن "صدمة الحضارة" الناجمة عن تلقّي الأفكار التحررية ومعاينة الشواهد المدنية لم تكن كافية لكي تحدث الشرخ في الشخصية الشرقية وتبعث على السؤال والحيرة وتزرع بذور الشخصية الإشكالية وتزعزع سُلّم القيم القائم، وتطلق عنان الأشواق التائهة والتباريح المضنية، فلقد رافق فعل الأفكار وساعد عليه ما كان يطرأ على نمط الإنتاج التقليدي والهياكل الاقتصادية والاجتماعية من تبدل نحو النمط الرأسمالي والقيم التبادلية التي مجالها السوق ومدارها على السلعة والتسليع، والعرض والطلب والربح والخسارة، وما أفضى إليه كلُّ ذلك من طوارئ تطرأ على أنظمة الأخلاق والعلاقات والعادات ولم تكتمل دورة التبدلات هذه إلاّ عبر الحمل القسري الذي فرضته الحملة الاستعمارية والإلحاق الذي تم بالعنف(4).
ومن ثمةَ كُتِب على الرومنسية العربية أن يكون مثلها أقرب إلى مثل الكائن الأنبوبي وأن تولد ولادة أشبه بالقسرية، وقد حملت بذور الإعاقة وهي في بطن التربة الجديدة وبذلك يمكن تفسير الظواهر التي رافقت حياتها العربية، إذ لا يصح النظر إليها بمعزل عن طبيعة التحول غير الطبيعي الذي كان الأصل في وجودها الشرقي(5).
إذن لم تنشأ الرومنسية في البلاد العربية على قاعدة تطور داخلي طبيعي مماثل لعوامل نشأتها الغربية بل تم ذلك بعملية حقن ووفقَ متطلبات تطور خارجي، الأمرُ الذي انجرَّ عنه ما انجرّ من خصائص النبتة التي تزرع بعد أوان الزراعة أو قبله ويُعوّل في تنشئتها على المنشطات والأسمدة الكيمياوية بدل التراب والماء والهواء والشمس.
اتجاهات متعايشة
أولى النتائج كانت التعايش الذي وسم علاقة الورمنسية بالـ "الكلاسيكية" عندنا على خلاف الصراعات التي ميزت تلك العلاقة عندهم في مهد نشأتها الأولى.
فلقد شاهدنا كيف لم يعْدُ الصراع بين دعاة الرومنسية وحُماةِ الكلاسيكية بعضَ المناوشات المحدودة في الحجم والزمان التي قابلت جماعة الديوان (العقاد والمازني وشكري)(6) وعدداً من أدباء المهجر (جبران ونعيمة وأبي ماضي)(7) بشوقي وأضرابه بيد أن شوقي نفسه، وهو الذي استهدفته سهام الرومنسيين، باعتباره رمزَ القدامة والتقليد، رأيناه يحتضن في "كرمة ابن هانئ" (بيته) الجلسة التأسيسية لجماعة أبولو التي كان للعنصر الرومنسي حضورٌ فاعل داخلها، ثم رأيناه ينال رئاستها الشرفية، وينظم قصيدة في مدحها وتقريظها وعلاوة على ذلك شكّلت هذه الجماعة خليطاً متعايشاً من النزعات المجددة والمقلدة، بل وجدنا الاتجاهين يتعايشان في الشخصية الواحدة والديوان الواحد، حتى لكأنّ أنموذج "خاتمةَ الإحيائيين فاتحةَ الرومنسيين" صار هو الغالب على أفراد الجماعة، بل يكاد ذلك ينطبق على الجميع بدءاً بالمهاجرة وانتهاء بأبولو، بل كان الشاعر يبدأ مقلداً، وينتهي مقلداً، وبين البداية والنهاية، يخوض غمار التجربة ذات النفس الرومنسي قليلاً أو كثيراً، قبل أن يفضي ذلك بـ "الابن الضال" إلى ضرب من "التوبة" يعيده إلى مولاه(8).
هذا التعايش بين التعبيرات الفنية المتباعدة تاريخياً، المتباينة اجتماعياً، متى أردنا له تفسيراً لذنا بالعلّة السابقة الذكر، علّة النقلة الاستعمارية الاستعجالية التي أحدثتها مدافع نابليون في حملته على مصر وآلة الغزو عامّة في مشارق البلاد العربية ومغاربها. فلقد جرّ ذلك نشوء طبقات وولادة تشكيلات غير بيّنة الحدود، وتطورَ اقتصاديات هشة وثقافةٍ هجينة، ومن ثم غابت التعبيراتُ الأدبية والفنية المستجيبة لمتطلّبات المواليد الطبيعية السوية، وكاد يغيب الصراع المميز لعلاقة الطبقات بعضها ببعض في مجتمعات الثورة الصناعية والثورة الفكرية والاجتماعية، ونضج التركيبة المجتمعية على نار هادئة.
وكما سبّبَ دخولُ الاستعمار إدخالَ نمط الإنتاج الرأسمالي على نحو استعجالي وبهدف السيطرة والنهب فقد أدى في مستعمراته إلى ظهور المسألة الوطنية وترجيح كفتها على كفة المسألة الطبقية، وإخضاع الصراع الطبقي للصراع الوطني، وشمل ذلك التعبيرات الثقافية التي تعايشت أضدادُها في وجه الضد الاستعماري وهو ما نراه يفسّر في آخر التحليل التآخي داخل التجربة الشعرية الواحدة والتجارب المختلفة بين عناصر الشعرية الكلاسيكية ونقيضتها الرومنسية، بين وجوه القدامة ووجوه الحداثة(9).
الرومانسية والتحرر
ومن ثمة كانت الخصيصةُ الأخرى المميزة للرومنسية العربية في ظروف الاستعمار هي المضمون الوطني والاجتماعي، الذي مدّ لها جسراً آخر مع الشعر الإحيائي (الكلاسيكي) في نسخته "العصرية"(10) التي استمدت عصريتَها من مواضيع الإصلاح والتهذيب والتعليم والعلوم والاختراعات التي طرقتها(11).
فقد طورت الرومنسيةُ القصيدةَ الوطنية التقليدية بانخراطها في حركة التحرر من الاحتلال الأجنبي والقصيدة الاجتماعية بتأجيج مشاعر الحدْب الإنساني على حُطام المجتمع وتيسير لغتها وإيقاعها وهكذا تعززَ البعد الكفاحي في الرومنسية وهي تنزلُ منازلَ ضحايا الظلم الإقطاعي والاستعماري(12) فيتقلصُ حظُّ النزعة البكائية والتباريح الفردية وإيثارِ العزلة والهروب الشائع عند الغرب أو هو يحضر جنباً إلى جنب مع نزعة التمرد والتوعد والثورة، التي تبلغ ذروتها مع شاعر كالشابي في قصائد مثل: "إلى طغاة الحلم" و"إرادة الحياة" و"نشيد الجبار".
وكما تأثرت الرومنسية بملابسات مهجرها المشرقي فإنها حافظت، وهي تحط الرحال هناك، على بعض سمات وجهها الغربي مثل اقتباس الأساطير واستحضار الميتولوجيا الإغريقية والرومانية وشواهدُ حضورها في شعر الرومنسيين العرب لا تحتاج إلى دليل، من آلهة حب وربات جمال وفن وخصب وغيرها(13).
توبة أم نكوص؟
وحملت الرومنسية معها، وهي تفدُ على الشرق، بعضَ سماتِ التحرر من قيود الوزن والقافية راوحتْ بين التنويع داخلهما والخروج عنهما(14) فكانت القصيدة المقطعية مثنىً وثلاثاً ورباعاً وأكثر، ووجد الشعراء في بنية الموشح وفي منجَز الشعر المحدث أرضية عروضية وإيقاعية مناسبة للاقتباس من الوافد الرومنسي وتطوير هيكل القصيدة العربية. بيد أن اللافت في هذا الأمر كما أشرتُ، وبرصد الخط البياني لتطور المنزع الرومنسي في التجارب الشعرية العربية هو اتجاهُه نحو الضمور عند الشاعر الواحد حتى تأتي النهايات وقد عاد "الشاعر الثائر" ينظم العمودياتِ العصماوات، في ضرب من "التوبة" أو "النكوص" أو "الردّة" يجد بعد تعليله في النشأة غير السوية للنبتة الرومنسية في المشاتل العربية(15).
إحالات:
(1) مؤلفات جبران، زعيم الرومنسية العربية، شهدت ظهور جلها في العقد الأول من القرن 20، وخلال العقود الثلاثة الأولى صدر معظم أعمال زعماء المذهب العرب.
(2) في بداية القرن العشرين كانت النزعات الأدبية والفنية التالية للرومنسية (الطبيعية، التعبيرية، الرمزية...) تشهد انتشارها والتحول الذوقي نحوها لدى الإنسان الغربي.
(3) انظر: أهم مظاهر الرومنطيقية في الأدب العربي وأهم المؤثرات الأجنبية فيها، فؤاد القرقوري، د، ع. ك 1988، ص31-32.
(4) انظر فصلنا: الشابي ظاهرة تاريخية لا خرافة، ضمن كتاب مع الواقعية في الأدب والفن، دار النشر للمغرب العربي، تونس 1984، ص126.
(5) تناول محمد قوبعة موضوع الأسباب المسببة للتحول الرومنسي العربي لكن العلل المجتمعية ذات الصلة بتحول التحت الاقتصادي والاجتماعي لم تنل حظها. انظر الرومنسية ومنابع الحداثة في الشعر العربي (الرابطة القلمية أنموذجاً) كلية الآداب منوبة 2006: فصل الرابطة القلمية وتحول النسق المرجعي، ص 117-130) وذهب فؤاد القرقوري مذهب الجزم بأن "التماثل قائم بين نوعية الهياكل الداخلية للعالم الرومنطيقي وهياكل المجتمعات العربية التي برز فيها ذلك العالم" والواقع يفرض تعديل هذه الرؤية في ضوء معطياته- انظر المرجع المذكور ص239.
(6) انظر كتابهم الجماعي "الديوان" (1921).
(7) انظر جبران يدافع عن لغته الشعرية في فصل: لكم لغتكم ولي لغتي، ونعيمة يحمل على شوقي في فصل "الدرّة الشوقية" من كتاب "الغربال"، وأبا ماضي يعيد تعريف الشعر ويقاطع النظامين في شعره على الشعر، إذ يقول مثلاً:
لستَ مني إن حسبتَ الشعر ألفاظاً ووزنَا
خالفت دربك دربي وانتهى ما كان منّا
(8) تجربة الشابي تقدم دليلاً على ذلك، انظر: دراستنا العروضية لديوان الشابي في "كيف نعتبر الشابي مجدداً" ط1، الدار التونسية للنشر، 1976.
(9) قد يكون الموروث الوجداني الكلاسيكي (وصف الطبيعة، الغزل، الحنين إلى الأوطان...) أسهم بضلع في "تعريب" الرومنسية وإحلال التعايش بين المذهبين.
(10) "الشعر العصري" شعار رفعه شعراء موفى الحقبة الإحيائية (وهم يقفون على مشارف الرومنسية ويتسابقون كما تسابقت الصحف والمجلات إلى نشر القصائد تحت هذه اللافتة التي عبرت عن رغبة في المعاصرة، لكن القصيدة التي انفتحت على سياقها الحضاري والإصلاحي لم تتطور من حيث البنية والروح، فعجل ذلك بارتفاع صوت البديل الرومنسي.
(11) جسد "الشعر العصري" برنامج زعماء الإصلاح في جواز الاقتباس من الغرب والحفاظ على الروح، ووجوب إرساء الحكم المقيد بقانون والنهوض بالتعليم ونشر العلم وتطوير الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، ومن ثمة انكب الشعراء على مشاكل المجتمع وقضايا الوطن يطرقونها دون احتفال يذكر بتطوير البنى الشعرية الداخلية.
(12) لا يكاد يخلو شعر شاعر رومنسي عربي من نزعة وطنية واجتماعية، بل امتد ذلك إلى القصص القصيرة والخلجات والخواطر التي دارت على ضحايا الظلم من الجنسين. انظر جبران خليل جبران في "الأرواح المتمردة" مثلاً.
(13) الشابي مثلاً، يستحضر أفروديت وفينوس وبرومثيوس بصورة مباشرة، وغيرها يفعل في خياله الشعري بصورة ضمنية. انظر أهم مظاهر الرومنطيقية... م. س ص214.
(14) نفسه، ص217.
(15) هذا ما توصلنا إليه من دراستنا لشعر الشابي وتطور علاقته بالبنية العروضية فيه، انظر: كيف نعتبر الشابي مجدداً-دراسة عروضية لـ "أغاني الحياة"- ط2 الدار التونسية للنشر، 1983، ص147 حيث سجلنا "تقهقر الشابي في طريق تجربته الفنية من المنثور والوشح والمجزوء ومنوع القافية ومقيدها إلى القصيدة العربية الكلاسيكية بمقوماتها الفنية العريقة أصبح يكتبها في أخريات حياته".