الناقد والروائي المغربي محمد برادة :لم أتوقع ان تكون رسالتي للدكتوراه عن الدكتور محمد مندور
الناقد والروائي المغربي محمد برادةلم أتوقع ان تكون رسالتي للدكتوراه عن الدكتور محمد مندور أثناء إعدادي لرسالتي اكتشفت ان مقالات مندور السياسية والأيديولوجية أكثر أهمية وتأثيرا من أعماله النقدية الرواية العربية إنجاز مشترك رغم خصوصيتها في كل بلد عربي روايتي «لعبة النسيان» محاولة لفهم ومراجعة حياتي بعد ما عشت عشرين عاما مهموما بالنضال السياسيالناقد المغربي د.محمد برادة أحد أهم الوجوه الأدبية اللامعة في الوطن العربي، يتمتع بشهرة واسعة، ويشارك بفاعلية في الندوات والمؤتمرات العربية والعالمية، وقد بدأ الكتابة منذ الخمسينيات وأوائل الستينيات ولأن برادة متعدد المجالات، فمن الصعب أن تضعه في خانة معينة فهو يكتب الرواية والنقد ويترجم أيضا وقد صدر له عدد من الروايات منها: لعبة النسيان، والضوء الهارب، مثل صيف لم يتكرر، وهي أولي الروايات التي كتبها متأثرا بالفترة التي قضاها مصر، فقد كانت أولي خطواته الإبداعية بها، وله عدد من الكتب النقدية منها: أسئلة الرواية، أسئلة النقد، لغة الطفولة والحلم، محمد مندور وتنظير النقد الأدبي.كما ترجم لرولان بارت «الدرجة الصفر للكتابة» وترجم للوكليزيو «الربيع وفصول أخري» وتولي مسئولية اتحاد كتاب المغرب خلال ثلاث دورات، وفي آخر زياراته لمصر كان هذا الحوار:تجليات الغربة المتتبع لأعمالك يشعر بهاجس الغربة المسيطر علي كتاباتك خاصة كتاب« امرأة النسيان» فما مردود هذه الغربة؟ الغربة ناتج طبيعي للحياة العصرية لأننا داخل المدن الكبيرة والحياة المتسارعة والمبتذلة لا نستطيع ان نشعر بالاطمئنان إلي المحيط الذي نعيش فيه، ومن ثم هذا الشعور بأن هناك مسافة تفصلنا عن ذواتنا وأننا نعيش في سباق مع الزمن والأحداث المستجدة وسباق مع المعلومات والمعارف الكثيرة وكل هذا يبعدنا عن النفس.والغربة تأخذ عدة تجليات: فهناك غربة بالنسبة للمجتمع خاصة في المجتمعات العربية التي لم نستطع تحقيق التوازن بعد الاستقلال، وهناك الغربة مع العالم الذي يسير بسرعة جنونية وكل ذلك يحول الفرد من فرد قادر علي ان يتدخل في الأحداث إلي فرد شبه متفرج فتصبح الغربة نفسية، فالغربة سمة مشتركة بين كتاب القرن العشرين وهذا القرن، لكنها تأخذ سمات ومظاهر لها علاقة بنوعية الحياة التي يعيشها كل فرد . لماذا اخترت محمد مندور موضوعا لأطروحتك للدكتوراه؟ في الحقيقة لم أكن اتوقع ان تكون أطروحتي عن مندور بالمعني التقليدي بعد ان انتهيت من دراساتي الجامعية وظللت عشر سنوات حتي استطعت ان أحصل علي منحة لباريس التي وصلتها عام 1970 كنت أبحث عن أجوبة لأسئلتي الخاصة، كنت قد بدأت التعرف علي «البنيوية» وبدأت التعرف علي بورديو ورولان بارت، ولم تعد الكتابات النقدية كافية بالنسبة لي، طه حسين أو المازني، العقاد ومندور، هناك إذن لحظة «مثاقفة» مختلفة عن لحظة العشرينيات والثلاثينيات التي جاءت فيها هذه الأسماء، إذن هذه المثاقفة ــ أي العلاقة بثقافة الآخر ـ هي عنصر موضوعي لكن المشكلة كيف نستوعبه ونوظفه، وكان لي إذن أسئلة مختلفة، كنت أتردد علي ندوات «النقد» عن المناهج الحديثة في تلك الفترة السينمائية والبنيوية، وعلم الاجتماع الأدبي وعلي اختيار الأطروحة وكان لابد ان انطلق من تراث عربي.وكان مندور ــ عندما وصلت إلي القاهرة ــ يقنعني إلي حد ما ، خاصة مواقفه السياسية ولكن بدأت اكتشف ان ما يكتبه في نقده رواية خطاب غير مقنع، مندور هو نوع من نقد النقد، فتوسلت بمناهج سوسيولوجيا الأدب وخصوصا عند جولدمان لأبين فكرة أساسية ان الكاتب والناقد والفنان لايستطيع ان يحقق ما يريده هو، فهناك جملة شروط اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية هي التي توفر الإمكانات المتاحة، أنا لا أستطيع ان أقول إنني أريد ان أصبح شاعرا كبيرا فأصبح بل هناك شروط أخري، وهذا التحليل هو الذي يبعدنا عن تقديس الأشخاص أو اعتبار المبدع نبيا ملهما من السماء، فأردت ان أبين ان هذا الخطاب النقدي لمندور قد بلغ حدوده، واستنفذ إمكاناته وينبغي إعادة النظر فيه، وطرح أسئلة أخري للتفتح علي مناهج جديدة يمكن ان تتيح لنا قراءة أعمق لأعمال أدبية، ذلك مندور كان في المركز ولكن لم يكن قصدي ان أكتب عن سيرة ذاتية أو أبين نقصه، فقد كنت أريد ان أبين ان هذه التجربة النقدية كانت محكومة بجملة شروط، ولذلك يجب ان ننتقل إلي ما بعدها، كان هذا في عام 1973، وربما لو أعدت كتابة الأطروحة وربما سأكتبها بطريقة مختلفة لكنني سأظل وفيا لهذه النقطة الأساسية في سوسيولوجيا الأدب. وهل تعرفت عليه بشكل شخصي؟ رأيته مرة واحدة في أحد المؤتمرات وصافحته وكان يتحرك ببطء ولكني عرفت أكثر زوجته الشاعرة ملك عبدالعزيز. وما رأيك ــ الآن ــ فيه بعد 50 عاما وقد رحل؟ مندور يجب ان ينسي لأنه أدي وظيفته وقد تبين أثناء إعدادي للأطروحة ان مقالاته السياسية والأيديولوجية هي الأهم والأكثر تأثيرا، لكن مقالات نقد الأدب أشياء مدرسية بسيطة ورغم انها استمرت عشرين عاما، وهذا أكثر ما ينبغي.بين النقد والرواية في كتابك النقدي «أسئلة النقد.. أسئلة الرواية» كتبت عن روائيين عرب وروائي عربي واحد، لماذا لم تكتب عن الرواية المغربية؟ هل لأنها لا تصل إلي مستوي باقي روافد الرواية العربية؟ هذه مجرد مصادفة لأني كتبت عدة مقالات ودراسات عن الرواية المغربية ونشرتها في كتاب صدر لي هذا العام بعنوان «فضاءات روائية» ولكنني نشرت في أسئلة الرواية وأسئلة النقد مجموعة من القراءات التي أنجزتها في حلقات دراسية أو ملتقيات أو من خلال متابعتي للرواية العربية، واعتقد بطبيعة الحال ان الرواية العربية إنجاز مشترك لأنه يتم باللغة العربية علي الرغم من اشتماله علي خصوصية كل بلد عربي وعندما أتابع نقد هذه الروايات فإنني أفترض ان هناك نوعا من التفاعل بينها، فهناك تأثير للرواية المشرقية علي الرواية في المغرب، فالأمر لايتعلق بالأفضلية ولكن يمكن القول إن بلدان المشرق «مصر، الشام، العراق» كانت أسبق إلي الكتابة الروائية، وحققت نوعا من التراكم الكمي والنوعي، وهو الذي يبوئها ويعطيها هذه المكانة ولذلك فالاهتمام بها هو اهتمام بالجودة في حين ان بقية الأقطار العربية التي كنا نسميها بلدان المحيط لها إنتاج أقل، ولكن في العقدين الأخيرين نشاهد طفرة الرواية في جميع الأقطار. في روايتك «لعبة النسيان» نلحظ ان القضية التي تشغلك لم تكن وقائع سيرتك الذاتية وإنما كيفية كتابتها..لماذا؟ «لعبة النسيان» تمثل لي محطة أساسية لأنني من قبل كنت أكتب القصة القصيرة ونشرت مجموعة بعنوان «سلخ الجلد» عام 1979 وعندما بدأت أكتب لعبة النسيان عام 1980 كنت أحاول أن أفهم المسار الذي عشته طوال عشرين عاما مهموما بالنضال السياسي والثقافي، ولم تكن لي فرصة مراجعة حياتي.وأنا أكتب هذه الرواية علي مدي ست سنوات بدأت أطرح كل الأسئلة الأساسية بعلاقتي بالمجتمع وعلاقتي بذاتي وبالحب والمودة والحياة.. إلخ، ومن هذه التجربة تبين لي ان كتابة الرواية تعتمد أيضا علي لعبة السرد والذاكرة وهو نوع خاص من اللعب، فكتبت عن أشياء جدية لكن حضور أبعاد لعبية، وهذه الأبعاد هي التي توفر نوعا من المتعة للقارئ فلعبة النسيان تشتمل علي توظيف بعض العناصر المتعلقة بسيرتي الذاتية ولكنني ضفتها بصيغة الرواية وقمت فيها بلعبة السرد، وربما تكون هي أهم نص كتبته في تجربتي الروائية وربما كانت رواية محظوظة لأنها منذ أربع سنوات تدرس في المرحلة الإعدادية والثانوية، وطبعت منها حتي الآن 150 ألف نسخة. كتابك «ورد ورماد» يعتبر عودة لأدب الرسائل.. ما السبب في قلة بل ندرة هذا النوع من الأدب الآن؟ هذه مجموعة رسائل خاصة كنت أتبادلها مع الصديق محمد شكري وكنت التقطها وأنا في دوامة العمل في الفترة منذ 19721995 وفي عام 1994 أعدت قراءة بعض هذه الرسائل وجدتها تشتمل علي عناصر أدبية وفكرية يمكن ان تفيد الذين يدرسون واقع الثقافة في المغرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فاقترحت عليه نشرها فوافق، لكننا لم نتفق مسبقا علي تبادل الرسائل لنشرها في كتاب كما فعل الشاعر محمود درويش وسميح القاسم، فهي رسائل حقيقية ذاتية تشتمل علي لقطات متنوعة تخص الحياة الشخصية والحياة العامة، والملاحظة حول ندرة هذا النوع من النشر صحيحة لأن الكتاب العرب الآن لا يتبادلون الرسائل إلا فيما ندر، فمع مجيء الهاتف المحمول والفاكس والإيميل أصبحت شبه منعدمة هل النقد علي مستوي العالم العربي الآن يمكن ان ينير الطريق للمبدعين كما كان قديما؟ لا أظن ان النقد يستطيع ان ينير الطريق للمبدع، النقد له تأثير ولكن تأثيره معقد والكاتب المبدع يخضع لعدة شروط يستجيب أولا لتجربته في الحياة وما قرأه من نصوص وكيف تكونت علاقته بالإبداع العربي والعالمي، وعلاقته باللغة، فالنقد فقط قد يثير الانتباه إلي بعض القضايا وإذا كان الناقد يتوافر علي ذائقة أدبية، وقد يدفع ذلك المبدع إلي أن يعيد النظر في مسيرته فمسألة الإبداع تعود أساسا إلي الجهد الشخصي الذي يبذله المبدع، وضرورة متابعة ما ينتج علي المستوي العربي والعالمي، فلا يمكن لمبدع ما ان يكتب وكأنه ينطلق من نقطة الصفر.وخطاب النقد الأدبي ينطلق من نصوص وقد ينبه إلي المعرفة التي تتيحها النصوص الأدبية وهي معرفة تختلف عن المعارف الأخري لأنها تعتمد علي المخيلة والرموز والمشاعر، فالنقد إذن يمكن ان يفيد الخطاب الثقافي للمجتمع بصفة عامة.
المصدر : جريدة القاهرة