الفنانة التشكيلية كريمة بناري: فيما وراء التصوير الصباغي

الفنانة التشكيلية كريمة بناري: فيما وراء التصوير الصباغي

على هامش معرضها الأخير بباريس

تواصل الفنانة التشكيلية كريمة بناري (المقيمة بباريس) مسارها الفني في بلاد المهجر. فبعد تخرجها من المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء عام 2002 ومشاركتها في العديد من المعارض الفنية في المغرب والخارج، عرضت الفنانة مؤخرا آخر أعمالها الفنية في غاليري "أسيرما" بباريس تحت عنوان "فيما وراء الأحلام" بالمشاركة مع الفنان الفرنسي ديديي توماس. وفيما يلي إضاءة لبعض هذه الأعمال.
ما الذي يمكن أن تصيره حركة صباغية تمنح نفسها شكلا، ملمحا أو جسدا؟
أيمكننا أن نحول حركة واقعية، وندفع بها في اتجاه أحشاء سند أو قماش، كي تصير حركة صباغية؟
لا أتذكر ذاك الشاعر أو الكاتب الذي قال: "ينبغي دائما أن نذهب بعيدا كي نقبض على البصر".
إن حركاتنا تجيء من الرغبة في ذهابنا إلى منابع الطفولة.. ذلك لأن الأساسي في العملية الإبداعية هي الطريق والسفر من مكان ما إلى مكان آخر.
أعمال الفنانة التشكيلية كريمة بناري (المقيمة بباريس) تشير إلى هذا المسار الذي تنبعث منه حركتها وملامحها وأجسادها الصباغية الشخصية.
من الأزرق تلوح في البعد قامات لكائنات آدمية، لا تعرف أهي ذاهبة إلى العمق أو آتية إلى السطح. وحين تتطلع إليها محاولا استكشاف بواطنها يتحول الأزرق إلى اللون الرمادي، ويتم تأجيل رغبة التعرف على الملامح إلى حين التهام الرمادي للسطح.
لكن تأجيل الرغبة هو استمرار لها، ذلك لأن انسدال الرمادي يزيد من حدتها، ويتطلب إصغاء بصريا لدبيب خطوات والتواءات الكائنات الآدمية.
نزول الرمادي يستدعي أيضا الدخول في حالة عمى، حيث تعبر لذة الاستكشاف من حاسة البصر إلى حاسة اللمس. هنا تبدأ التلميحات والتوشيات الحمراء وأحيانا البيضاء تلمع على حواف الكائنات المنغرسة في الرمادي.
تندفع كريمة بناري أمام سنائدها لتضع بعضا من شظايا كامنة في ذاكرتها البصرية. شظايا تختار لها الفنانة أسرة لونية: الأزرق، الرمادي، وأحيانا اللون الأمغر الشفيف. شظايا أو لنقل أشلاء أجساد تبدأ شيئا فشيئا في التشكل لتأخذ شكل هيئات آدمية أو تكاد. خطوط منهكة مجبولة بالأحمر تارة وبالأسود تارة أخرى، تتردد عن الإفصاح عن هويتها، كأنها على عجل من أمرها، أو كأنها تقاوم النسيان. ربما.. فالأعمال الفنية السابقة للفنانة كانت تحبل بإرهاصات هذه الهيآت الآدمية الملتهبة والمنهكة في آن واحد.
تقول الشاعرة المغربية دليلة أردان عن بعض أعمال كريمة بناري السابقة "تتدرج العجائن اللونية، بدءا بالأحمر الباهت، ثم اللون الأمغر، فالأصفر والأزرق، وتنتهي التركيبة (أو التدرج) في اتجاه الرمادي. كأن السير التراتبي لهذه الألوان يشبه اندلاع النار في أشياء المكان، حتى إذا أتت عليها، صارت كومة من رماد. ولكن الرمادي الذي يصل إليه تدرج الألوان هنا يظل ملتهبا بجذوات صفراء أو حمراء لامعة. إنها إشارة إلى الصراع القائم بين الحياة والموت."
غالبا ما يقال إن الرمادي يمنح الإحساس بالقتامة، باعتباره حالة وسطى بين الأبيض والأسود، فلا الضوء يلبسه، ولا العتمة تغشاه. إنه في وضعية تراجيدية.
الفنانة كريمة بناري في تعاملها مع هذه المسحة الرمادية تحاول أن تضع كائناتها على حافة التقابل بين الحياة والموت، بين الغياب والحضور، بين الإياب والمجيء، بين الإقامة والترحال. ويبدو أنها تريد الإشارة إلى مشروعها الفني الذي تحلم بإنجازه.. المشروع الذي كانت تحمل من أجله آلة التصوير، لتترصد عبرها مغامرة بدايات الموت غرقا، التي يعيشها شباب (فتيان وفتيات) اختاروا أن يهاجروا سرا إلى الضفة الأخرى بحثا عن حياة أخرى.
هذه الحركات/ الخطوط اللونية المنهكة، التي تكابر كي تظل واقفة، تتكرر، لكن في وضعيات متباينة، لتؤكد على ما ينفلت، وتحاول الفنانة القبض عليه. تحاول وهي تعرف أن المنفلت صعب القبض عليه.
بوجمعة أشفري
شاعر وناقد فني

المصدر :الحافة