كتب الأسئلة: ناصر مؤنس و صلاح عبد اللطيف
لنستعير محمود درويش، فقد سماك مرة ديك الحي الفصيح، وأضاف بأنه لا يعرف متى يبدأ فيك الروائي السارد ومتى ينتهي الشاعر. هل تعرف أنت الحدود بين المكانين؟
لي عينان تريان المشهد ذاته. الكثافات سرد، والظلال شعر في اختزال إشاراته. لا كثافة بلا ظل. لاظل بلا كثافة. الكلمات، بقيامة واحدة، تحشر الموصوفات أمام ميزانها بلا تفصيل: ما يصلح للشعر في كفة منها يصلح للسرد أيضاً. أنا لا أصنف اللغة، في عرف إنشائي، طبقات ومراتب فأذل بعضها، وأكرم بعضها الآخر. هي نبؤة الخيال النهائية، وهدى ضلالها الطاهر. هدى نفسها في الإسراف خروجاً على أسر المعنى وقانونه. وفي هذا المتاح العميم من شساعتها أذهب إليها بجسد واحد، كثافة واحدة لها قوام ظلها: فيها لا أعرف حدوداً بين الشعري في مسالك وبين المسرد النثري تدويناً، حكياً. فأنا على نحو ما، أحرر الرواية من طابع الحكاية لتنقال إشارة، وفتنة إشارة، لتكون معرفة في مراتب الأحوال بسيطها ومركبها؛ لتأخذ بجواذبها ما تقدر على نهبه. وأمكن الشعر من ترتيب إيحاءاته، لا بانتخاب المختزل من نواظم الرؤى، وانكشاف البرازخ الأكثر خفاء في تجاوزات الألفاظ كعلائق خلخلة، بل بدفعه إلى امتحان أقصى بإيراده مورد النثر السارد ليفتنه، ويدفئه، ويصوغه بكمال الضلال في ذاته شعراً. هكذا يعود النثري إلى الشعري الذي هو خاصيته كسحر مذ كان الأزل ساحراً، والوجود ساحراً، والكائنات ساحرة بجلال نشوتها.
في "الجندب الحديدي" كتبت "سيرة الطفولة"، وفي "هاته عالياً" كتبت "سيرة الصبا". لكن لابد من لحظة محورية ثالثة في تكوينك؛ متى تنطبع على الشريط الفوتوغرافي؟
الكتابة بعيني طفل معابثات غير جارحة، كتى لو كانت الصور مجروحة، وممزقة. الشخوص التي خرجت في سطور السيرتين وقرأت أخبار نفسها، كانت عارفة أنها معفاة من مساءلة الأخلاق وقوانين العلاقات. هي شخوص كانت صغيرة في مملكة الحبر الذي دونت به الكلمات، ولا يطاولها الاقتصاص على الجناية، ولا تحاسب محاسبة البالغ. الكبار، أنفسهم، يجدون أعذاراً لوقائع تمس مقاماتهم، فالتدوين تدوين طفل لا يؤخذ حكمه على محمل الإفتاء. كلهم ضحكوا، كما قيل لي، إذ قرأوا (أو قرئ لهم) أنفسهم على النحو الذي ألبستهم قناع الحبر. لكنني إن أفتيت الآن، وجاهدت في إخراج الحيوات الممزقة إلى سردها سيرة، فسيكون لي حكم الريح على بيدر. وليس بي نزوع، على أية حال، إلى أن أكون مرشد القضاء إلى الأقدار، إنما ربة سائل يعترض ما أقول، مقترحاً تدوين مالا يعذب، أو يجرح، أو يخذل، أو يفضح، أو يطعن، أو يفصح، أو ينكأ ما التأم، أو يعير، أو يكشف، فأضع تدوينا بالصفح عن عثرات الآدميين، وستر عيوب، وحفظ عورات، وتفاض عن التنكيل بالحياة، مع إيثار السلامة في المرور بين حطام العلاقات. لربما أمكن وضع سيرة ثالثة نصفها بهاء في بلاغة أشيائنا الصغيرة، وقبلنا الصغيرة، وأسفارنا، وجيراننا الطيبين والمزعجين لكنها ستكون، قطعاً، تزويراً في جانب ما.
الجارح، المغتصب، الحماقة، السري، العاصف، هي وحدها شؤون تليق بقيادة السيرة؛ فعلى من سأقوض الهيكل؟
اليوم، ونحن نرى أن ما يسمى بالأدب السائد يشبه آلة كسولة تبذل جهداً جباراً لكي تملأ فراغات ما قيل. ونرى أن الكثير من النتاج العربي الحالي لم يخرج من حدائق حيواناته إلا نادراً (ظروف قاهرة للغاية في الوقت الذي تقدم فيه نماذج الإبداعية الشعرية لتعارض الإفادة المعلنة للشعر، والصادرة عن المراجع الرسمية للكلام). قصائدك تشحن الكتابة بسؤال يصرخ: الآن هذا يكفي، فقد نال الشعر حصته من الصدأ. ما رأيك؟
حين اجتهد الخيال الشعري في خمسينيات هذا القرن، وستيناته، للخروج من نمطية الإنشاء المتشابه للقصيدة العربية، اتخذ سنداً لدعواه أنه سيرفد الشعر بعلوم أكثر جسامة من أن تقدر النواظم الرتيبة على اكتناهها؛ على القصيدة أن تكون ثقافة الجهات؛ وعيها؛ انعتاقها من ثورية الخصائص المستنسخة.
عاش هذا الخيال الشعري، الحسن النية، عقداً ونصف عقد لا غير. من الستينات إلى أوائل السبعينات، ثم انحدرت القصيدة "الغضة الإهاب" إلى فوضى، ثم صارت الفوضى ذاتها نمطاً، لها خصائصها التي يمكن ترتيبها، وتوبيبها كما كانت تبوب "أغراض" الشعر المنظوم: الركاكة. البناء على فراغ. الجهل باللغة كلياً. استحسان القطيعة مع قواعد التدوين. الترفع العميم للجهالة عن تراث الماضي، من غير تحصيل لتراث الحاضر. التجرؤ على الخفة. ولهذه السخرية من جلال الشعر أسباب، في أساسها "موت النقد الأدبي"، بعد موجة هبوب أموال النفط العربي، قبل أواسط السبعينات بقليل، فتكاثرت الصحف، والمجلات الدعائية للأنظمة. وفي هذه الكثرة من الأوراق المطبوعة بحبر مدفوع الثمن بسخاء، بات تقليد وجود صفحات ثقافية أمراً على صخب في شيوعه. وجرى توظيف عاملين فيها بلا اختصاص، بل من باب اسناد الوظيفة إلى "نشيط" في جمع ما يقدر به على ملء صفحاته المتسعة عرضاً وطولاً.
قتل التقويم، قتل الانتخاب المصاحب بوعي نقدي. قتل الاختيار بالتفصيل. أميون في القراءة تداعوا إلى تزوير الذائقة بانطباعات تصلح في لغة التعميم الكسولة على كل نص.
كان ثمة مجلات قليلة جداً، قبل هذا الباء، بمهمة "ترشيد" الذائقة بقدر معقول من الصرامة في اختيار النصوص. وكان يقوم على الصحف القليلة أدباء مختصون في مذاهبهم، ما كان يجرؤ المبتدؤن في علوم النصوص أن يحملوها إليهم بالثقة التي يفعلونها الآن، تبعثر النقاد العارفون بآلات لغتهم. انحسروا وذابوا في الحشد المتقدم إلى الحلبة، ساذجين ينقدون الشعر بلا معرفة في العروض، وينقدون اللغة بلا فهم في الإعراب، وأما الفقه فهو لفظ من علم مقفل.
كيف، إذاً، سيميز "الخبراء الجدد في الركاكة" هؤلاء أن شخصاً ما ينحو إلى ابتكار في علامات اللغة وعلاقاتها؟ كيف سيعرفون أن هذا يخطئ في العروض، وذاك يخضع المجزوءات لفتوح في الأوزان؟
كيف سيعرفون اختلافات البناء اللغوي بين واحد وآخر؟ ومع ذلك هم "نقاد" الذائقة الشعرية الراهنة، و"مسوقو" الجهالات.
في كل عصر، قطعاً، يتكرر المشهد ذاته، بصورة أو بأخرى، فيكون الجيد الحقيقي نادراً، والنمطي المتوارث سائداً. غير أن الجهل في تصنيف النصوص، راهناً، فاق كل جهالة. إذ بات النشر في المنابر متاحاً بتساهل القائمين عليها في إفراط ما بعده إفراط، وباتت علاقات الشاعر الركيك الشخصية على سعة تؤهل لكتابه المهلهل مقالات لا تحصى في إفراط عافية نصه.
فوضى يصححها، من وقت إلى آخر، قارئ حقيقي، مجهول، لا يشتغل في تدوين مدائح معلنة في الصحائف، يبارك روحك بعناء قراءته الخالقة لنصك المتعطش إليه.