أديم الليل ( متوالية )
1- أوراق الكوتشينة :
ظن أن بنت يوشع تأخرت يومها عن الصعود لعرشها في السماء، فلم يتسلل شعاع ضوئها الدافئ من فتحات شيش الشباك ليسقط علي وجهه ليوقظه كالعادة، استيقظ يومها متأخرا عن موعده علي أصوات ترتيل قرآن... عجباً!!... وهل تذكر أهل الحي القرآن من جديد؟!، وما هذا الهدوء غير المعتاد؟... أين ضجيج الأطفال؟... أين الضوضاء؟
أزاح الملاءة من فوقه ونهض بخفة وسرعة الغزلان، أطل من النافذة برأسه... ما هذا؟!
كراسي متراصة، أشباح سوداء تمر يميناً ويساراً... نعش مغطي بمفرش أخضر منقوش بآيات قرآنية تهيأ لاحتضان محبوبة.
جاشت الأفكار في صدره وسأل نفسه :هل مازلت في عالم الأحلام؟...لكن!!
فلول الناس بدأت تطل علي المكان، تتراص منكسة الرؤوس جوار بعضها البعض كقطع (الدومينو)، ووسط الصفين المتوازيين علي بجانبي الطريق ظهر وسط ظلمة اللون الأسود المسيطر علي المكان جلباب أبيض يحمل علي ساعديه لفافة بيضاء وبأعلى صوته صاح في الوجوه الذابلة وقال: (وحدوه).
وكانت كالشرارة التي أرّجت نيران النواح ففزع وارتعدت فرائسه، وسمع أرغولاً يبكي فتسللت من بين أهدابه دمعة سقطت علي الأرض فارتجت من أثرها.
يداً حانية امتدت لتهدئ من روعه وتابعها صدر دافئ متسع احتضنه فانهمرت دموعه وسأل أمه: (من اليوم يا أمي؟)
سكتت هنيهة ثم بصوت باكي وعين دموع طفقت تبكي وتقول :أعز صديق... أعز صديق...
سقط علي ركبتيه ثم غاب عن عالمه... عاد بعد قليل ليكمل سيل دموعه حين قال:
- لقد كان معي منذ قليل... مازلت اسمع ضحكاته عندما كسب في اللعب، أوراق الكوتشينة لم تزل مبعثرة علي الطاولة... حدثني عن آخر ما كتب ولم أزل أري قلمه يسطر كلماته... أنا لم انتهي بعد من القراءة... وكان ينتظر رأيي... آه..لم يعد عدته لتلك اللحظة... لم يكن مستعد.
تحدث عنه كثيراً وأمه تسمع له دون أن تأجم منه حتى انتهي، فاتأدت قليلاً وربتت علي كتفه وقالت: لن يفيد الحديث يا ولدي، ادعوا له الله... فرفع يده بالدعاء.
2- الطائر الحزين:
يهمس في أعماق الذات ويقول :
- أتمني أن احلق طائراً يرفرف قلبي بجناحي الأفراح وأرتق عالياً في سماء الأحلام لأصل إلي العنان لأعانق فيه زهور الآمال وألقي لعالمي –عالم الأحزان-بزهور الابتسام.
يسكت هنيهة ثم يستطرد قائلاً:
- لكني أخشي القيود التي تحطم الجناحين... أخشي السقوط في دوامة الشباك، فالصائد اليوم محترف... والطيور لعبته، فكلما رأي طائراً ضعيفاً ممزق الأوصال طاب له اصطياده.
يتوقف قليلاً فقد أجهده الهمس،يمضغ ريقه ثم يبتلعه... يلتفت حوله بإضجار ونفور...يذهله المكان، الأشجار قصيرة هزيلة، أشواك الصبار تملئ عينه،ذرات التراب ممزوجة بأوراق الأشجار الجافة تتحرك بهدوء... الصمت يملئ أرجاء المكان... الألوان باهته... وفجأة!!!
ينبت من جذع الشجرة الموازية له وجه قطة سوداء عوراء وتقطع حبل الصمت بصرخة مفزعة (ناو).
يتلعثم... يضطرب... يرجع بظهره إلي الخلف قليلاً فيستند علي شيء ما يفكر علي أي شيء استند؟ فينظر خلفه فيرى باقة زهور ذابلة علقت علي حائط... لا، ليس حائط انه شاهد القبر!!!
يتذكر الشباك والصائد المحترف فلا يجد سوى الفرار حلاً، فهو الآخر لم يعد العدة.