الشكل المكاني في الأدب الحديث
جوزيف فرانك*تلقى الشعر الأنجلو-أمريكي الحديث قوته الدافعة المبدئية من حركة "التصويريين" في السنوات التي سبقت وتلت الحرب العالمية الأولى· كانت الحركة التصويرية مهمة، ليس بسبب أي شعر كتبه شعراؤها، إذ لا أحد لا يعرف بالضبط ما هو الشاعر التصويري، وكان بسبب أنها فتحت الطريق أمام التطورات اللاحقة بقطيعتها البارزة مع لغة الحشو العاطفي المصنع للعصر الفيكتوري·
الكتابات النظرية النقدية لأزرا باوند، منظّر التصويرية البارز، مزيج مدهش من الإدراكات الجمالية النفاذة مقذوفة وسط سلسلة من الملحوظات الطفولية الماكرة هدفها إذهال البرجوازيين· ولكن تعريف "باوند" للصورة، وهو أكثر إدراكاته توقدا ربما، ذو أهمية أساسية في أي مناقشة حول الشكل الأدبي الحديث·
كتب "باوند": "الصورة هي ما يقدم مركّبا عاطفيا وفكريا في لحظة زمنية خاطفة"· وما يجب ملاحظته في هذا التعريف ومتضمناته، هو تعريف الصورة، ليس كتوليد بصري، بل كاتحاد أفكار وعواطف متابينة، في مركّب معروض مكانيا في لحظة زمنية خاطفة·
ومركّب مثل هذا لا يتوالى بإسهاب بناء على قوانين اللغة، بل يصدم حساسية القارىء بأثر فوري· ويشدد "باوند" على هذا الجانب حيث يضيف في الفقرة التالية بأن التقديم اللحظي بمثل هذا المركب وحده هو ما يمنح "ذلك الإحساس بالتحرر المفاجىء، ذلك الإحساس بالتحرر من حدود الزمان والمكان، ذلك الإحساس بالنمو المفاجىء الذي نجربه في حضور أعظم أعمال الفن"·
هنا نجد أن الشعر الحديث منذ البداية يدافع عن نهج شعري مناقض مباشرة لتحليل "ليسنج" لطبيعة اللغة· فإذا قارنا تعريف "باوند" للصورة، بوصف "اليوت" لسايكولوجية العملية الشعرية، نستطيع أن نرى بوضوح كيف أخّر هذا المفهوم عميقا على فكرتنا الحديثة عن طبيعة الشعر·
الخاصية المميزة للحساسية الشعرية لدى "إليوت" هي قدرتها على إنشاء كليات جديدة، وعلى صهر التجارب المتبانية ظاهريا في وحدة عضوية واحدة·
يكتب "إليوت": "يحب الرجل العادي أو يقرأ سبينوزا، ومثل هاتين التجربتين لا تعلق لإحداهما بالأخرى، أو بضجيج الآلة الكاتبة أو رائحة الطبخ، إلا أن هذه التجارب في ذهن الشاعر تشكل دائما كليات جديدة"·
وأرجعت جرأة وثورية قصائدها إلى أسباب تقنية أساسا، مثل إهمال القالب الوزني وتعاملهما مع موضوعات تعتبر غير شعرية بشكل عام· وقد يصدق هذا على "باوند" أقل مما يصدق على "إليوت"، وبخاصة في أعمال هذا الأخير المبكرة مثل "بروفروك" و"جيرونشت" و"صورة شخصية لسيدة"· ولكن حتى هنا، ورغم أن أجزاء القصيدة غير محكومة ببناء الجمل المنطقي، فإن هيكل البنية السردية المستخدم حاضر دائما· إن قارئي قصيدة "بروفروك" يسير قدما مع حركة سردية منذ السطور الأولى::
دعنا نمض إذن، أنا وأنت
حينما المساء···
ويصل القارىء أخيرا وهو يرافق "بروفروك" إلى مستقرهما النهائي المشترك:
النساء في الغرفة رائحات غاديات
يتحدثن عن مايكل أنجلو
وعن هذه النقطة تصبح القصيدة سلسلة من شظايا معزولة تقريبا، يقدم كل منها جانبا من جوانب معضلة "بروفروك"، إلا أن كل شظية تمتلك موقعا، وتتحور الآن في منظومة شروط محددة، ويستطيع القارىء تنظيمها بالإحالة إلى الوضعية الضمنية للقصيدة·
هذا المنهج نفسه مستخدم في قصيدة "صورة شخصية لسيدة"، ويقال للقارىء في "جرونشن" وبشكل محدد، إنه يقرأ "أفكار عقل جاف في موسم جاف"، تيار وعي "عجوز يقرأه صبي ينتظر المطر"·
وفي كلتا القصيدتين إطار قابل للإدراك، ومقاطع قابلة للتنظيم ضمن هذا الإطار غير المرتبطة به ظاهريا·
وهذا أحد أسباب عدم اعتبار "موبرلي" "باوند"، وأعمال "إليوت" المبكرة رائدة لشكل شعري جديد، بل شعر اجتماعي ساخر لا أوهام لديه، مع شيء من الجمال الهش، تفتقر إلى خاصية "الجدية الراقية" التي اعتبرها "ماثيو أرنولد" حجر الشاعرية المتفوقة الأساس· واعتبرت هذه القصائد غير عادية من الأساس لأن الشعر الاجتماعي لم يعد رائجا آنذاك منذ زمن طويل، إلا أن صعوبة قليلة كانت تقف أمام قبولها كنقطة انفلات فني من أسلوب القرن التاسع عشر المفخم·
مع قصائد "الأناشيد" لباوند، و"الأرض اليباب" لإليوت، سيكون واضحا حدوث تحول جذري في البنية الجمالية· وهذا التحول لم يمسه النقاد المعاصرون إلا مسا سطحيا·
ر·ب بلاكمور هو الذي اقترب أكثر من غيره من المشكلة المركزية وهو يحلل ما دعاه "باوند السردي"· يوضح "بلاكمور" أن الشكل المكاني لمجموعة "الأناشيد" هو "حكاية بدأت في مكان واحد، تنتقل إلى مكان آخر أو أكثر، وتصل إلى نهايتها، هذا إن وصلت، في مكان آخر أيضا· هذا التقطع المتعمد، وهذا الفن لشيء يلمح إلى نفسه باستمرار، ويتقطع باستمرار هو المنهج الذي تربط به الأناشيد نفسها· فما أن يتناغم ذهن القارىء مع مادة القصيدة، حتى يبلبله السيد "باوند" عامدا، إما بتقديم مادة جديدة ومنفصلة، أو بالعودة إلى مادة قديمة متساوية في انفصالها ظاهريا"·
ويمكن أن تنطبق ملحوظات "بلاكمور" أيضا على قصيدة "الأرض الخراب"، حيث يتم التخلي عن بنية التتابع المنطقي لصالح بنية تعتمد على إدراك العلاقات بين زمر كلمات غير متصلة ببعضها البعض· ولفهم زمر الكلمات هذه يجب أن تتجاوز ويتم تصورها متزامنة، وفقط حين يتم هذا، يمكن فهمها بشكل دقيق، لأنه في الوقت الذي يتبع فيه بعضها بعضا، لا يعتمد معناها على علاقة التعاقب هذه·
إحدى صعوبات هذه القصائد التي لا يمكن أن يتغلب علهيا التأويل النصي مهما بلغ حجمه، هو الصراع الداخلي بين منطق الزمن في اللغة ومنطق المكان المتضمن في المفهوم الحديث لطبيعة الشعر·
يستند الشكل الجمالي في الشعر الحديث إذا على منطق المكان أو الحيز (Space-Logic) الذي يتطلب أن يعاد تكييف سلوك القارىء تجاه اللغة بمجمله· وطالما أن الإشارة المرجعية لأي زمرة كلمات هل قبل كل شيء إشارة إلى شيء ما داخل القصيدة نفسها، فإن اللغة في الشعر الحديث انعكاسية في الواقع (Reflexive) أي أنها تحيل إلى ذاتها (تتبادل التكاشف) ولا تكتمل علاقة المعنى إلا بالإدراك المتزامن في مكان لزمرة الكلمات التي ليس لها علاقة يمكن فهمها بين بعضها البعض فيما تقرأ بالتتابع عبر الزمن·
وبدلا من إشارة الكلمات المميزة والفورية، وكون زمر الكلمات أشياء أو أحداث ترمز إليها، ومن ثم بناء المعنى من تسلسل هذه الإشارات، يطالب الشعر الحديث قارئه بتأجيل عملية الإشارة الفردية مؤقتا، إلى أن يفهم قالب الإشارات الداخلية كله كوحدة واحدة·
* * *
ترجمة عن:
Twentieth Centuray Criticism, Ed. William J. Handy and Max Wesrbrak, The Freepress, NewYork, 1974