* محمود، ما من شك في أن قصيدتك أصبح لها تاريخ. ولها سيرورة طويلة ومعقدة وثرية من التراكم والبحث والأداء والتجريب وفتح الآفاق واستدراج الجغرافيات والأمكنة واللحظات الشخصية والعمومية، وكذا استحضار أشخاص ووجوه وملامح عديدة هي جزء من حياتك الشعرية، ومن شجرة حياتك وتجربتك ووجودك الخاص.
هذا التاريخ، تاريخ قصيدتك، كيف تقرؤه الآن؟ كيف تنظر إليه عندما تلتفت باتجاهه وتتمثله؟
** هل تريد الصراحة؟
* نعم...
** ليس فقط أنني لا أنظر إلي الوراء برضا أو بغضب. أنا أخاف من النظر إلي الوراء. أخاف كثيرا أن أقرأ فصولا كثيرة من تاريخ قصيدتي، لأنها تغيرت بشكل كبير، وما زلت طامحا إلي أن أكتبها بشكل أفضل. فالنظر إلي الوراء يُصَعِّبُ علي التطور، وبالتالي لو أتيح لي ـ وهذا كلام قلته أكثر من مرة ـ أن أعيد النظر في ما نشرت لحذفت الكثير. وللأسف الشديد، لم أعد قادرا علي أن أستعيد من الذاكرة ومن تاريخ الذاكرة، وليس فقط من المطبعة أو من المكتبة، نصوصا كثيرة لم تعد ملكا لي وإنما صارت ملكا لقرائها. فلم يعد من حقي أن أصدم هذه الذائقة.
إنني أنظر إلي تاريخ قصيدتي كما أنظر إلي تاريخ أي نمو، سواء كان نموا بشريا أو نموا شجريا أو نمو أي شيء. فهكذا تتشكل الأشياء، ولكن يرضيني شيء آخر: كلما نظرت إلي رداءة بداياتي وصلت إلي استنتاج أنني محظوظ، لأن أسوأ شيء هو أن يكون كتابك الأول هو أحسن كتاب لك. فما دام كتابك الأول هو أحسن كتاب لك، فأنت لا تتقدم وإنما تتراجع. وما دامت كتبي الأولي رديئة ـ برأيي ـ وكتبي الحالية هي أقل رداءة فأنا قابل للتطور، وقابل لتحويل التراكم إلي شيء نوعي. لذا فأنا أقترب أكثر من منطقة الشعر. طبعا، لن أبلغ الشعر ولا أحد يستطيع أن يبلغ الشعر أو يعرف ما هو الشعر في آخر الأمر، ولكننا نقترب من منطقة أكثر شعرية وأقرب إلي الشعر الصافي، غير الموجود طبعا، الذي علينا أن نطمح دائما إلي وجوده.
إذن، عندما أنظر إلي هذا التاريخ أتحاشي النظر إليه. ولكن إذا اضطررت إلي النظر إليه، أقول إنني راض عن تطوري الحالي وليس عن بداياتي. كنت أحبو وأصبحت أقفز.
* هناك، بجوار تاريخ قصيدتك تاريخ آخر لنقد قصيدتك. وثمة عدد وافر من كبار النقاد والباحثين الذين رافقوا قصيدتك عبر سيرورتها التاريخية والجمالية، سواء كانوا من داخل الساحة العربية أو من خارجها. وقد قرؤوها، قاربوها، اندسوا بطرائق ومناهج مختلفة في فضاءاتها المختلفة. كما أن بعضهم احتفي بها، وجاملها بعضهم حتى اضطرت لتعلن عن ضجرها، ودافع عنها البعض ممن اقتنع بمشروعها الشعري والجمالي المتقدم في التاريخ الحديث والمعاصر للشعرية العربية...إلخ.
أنت، محمود درويش، كيف قرأت وتقرأ هذا النقد الذي ربط وشائج مع تجربتك الشعرية؟ ما الذي تعلمته من هذا الخطاب النقدي؟ وما هي اللحظات النقدية القوية التي أحسست فعلا أنها خدمت مشروعك، وكانت أكثر قربا إلي نفسك وإلي اختياراتك الجمالية؟
** هذا سؤال صعب جدا. فالكتابات النقدية التي تتحدث عنها متناقضة إلي حد، ومتفاوتة إلي حد، وموزعة منهجيا علي ما هو قراءة بنيوية قد تلغي ما هو اجتماعي وثقافي وسياسي من النص، أو قراءة اجتماعية تاريخية تلغي الذات من النص. وبين هاتين القراءتين، وكلتاهما لا تمسك بالنص (النص بشكل عام وليس نصي الشعري فقط)، أشكو دائما من الإفراط في القراءة السياسية لنصي الشعري حتى أصبح كل ما أكتبه يفكك إلي إشارات سياسية تحيل إلي هذا المعني السياسي أو إلي تلك الحقبة السياسية أو تلك الحادثة السياسية...وهذا أسوأ ما في الأمر. فلم أقرأ قراءة جمالية موازية للقراءة التاريخية الاجتماعية إلا نادرا.
طبعا، بوسعنا أن نقرأ النص قراءة تاريخية أو اجتماعية ـ إذا أردنا ـ وهذا مستوي من مستويات القراءة، ويجب أن نحافظ عليه بدون أن يتم علي حساب القراءة الجمالية وكأن القصيدة وثيقة اجتماعية وليست نصا فنيا. وبالتالي، أصبحنا ـ نحن الشعراء العرب ـ مطالبين بأن نختار أحد المأزقين: إما أن يحول نصنا إلي وثيقة تاريخية أو إلي نشرة أخبار تنقل وقائع الانحطاط العربي الحديث، أو أن نبذل جهدا أكبر لقتل المعني في الشعر، أي البحث عن القيمة الجمالية المطلقة للامعني. وكلا الخيارين لَيْسَا خياري.
ولذا، عندما أتكلم عن شكواي أو ضيقي من الإفراط في القراءة السياسية لشعري وكأنه وثيقة للسردية التاريخية الفلسطينية، وإن كان يحمل بالطبع بعضا من هذا الجانب، فإنني لا أستطيع في المقابل إلا أن أستثني القراءة الأخرى. القراءة التي تعرف كيف تنظر إلي طبقات المعني المتعددة في النص الشعري، فتقرأ الفني، وتقرأ الاجتماعي، وتقرأ التاريخي. ولا شك أن حتى هذه القراءات المفرطة في التأويل السياسي علمتني كيف لا أزود هؤلاء النقاد بذرائع تجعلهم يقرؤون هذه القراءة. بمعني أنني أحمل نفسي المسؤولية أحيانا، مما يجعلني أكثر حذرا تجاه التناول السهل، فربما كان نصي الشعري أو بالأحرى بدايات نصي الشعري، بداياتي القديمة، هي التي قد تكون مسؤولة عن ذلك. ومن ذلك مثلا الإفراط في الترميز كأن تتم إحالة أي امرأة في القصيدة إلي أرض. قد تحمل المرأة معني الأرض، ولكن ليست المرأة هي الأرض. ومن ثم تجد أنهم يفصلون جسد المرأة التي أكتب عنها في قصائد الحب إلي جغرافيا.
طبعا، إن شعر الحب يحمل عدة معان وجودية وإنسانية، ولكن ليس بمعني الترجمة الحرفية للمعاني السهلة.
* محمود، من الواضح أن قصيدتك هي أحد مرتكزات خريطة الشعر العربي الحديث. ما في ذلك من شك. فهي جزء من هذه الخريطة وتتجاور فيها مع أنواع أخري من المرتكزات وأنواع من القصائد. ولذا يهمني أن أسألك عن هذا الجوار. كيف تقرأ مثل هذا الجوار؟ كيف تعيشه وتواكبه داخل هذه الخريطة، ودعني أؤكد أساسا علي التجارب الكبرى؟
** لا أستطيع أن أقول إننا نتجاور، وإنما نحن نتكامل. وأتحدث عن الخريطة الشعرية الحالية، أما في السابق فكل واحد كان يتعلم ممن سبقه. وبعد ذلك، بعد سن معينة نصير جيلا واحدا. لا تقاس التجربة الشعرية بسنوات العمر، إنما بسنوات الإبداع أو بالملامح الإبداعية لكل تجربة.
لذلك، أعتقد أننا لا نتجاور وإنما نحن أجزاء من بعضنا البعض، فليس هناك أحد منا كان سيكون مَنْ هو عليه الآن لولا الآخر. ولا أقول هذا من باب ادعاء التواضع. أكثر من ذلك، أنا أتعلم وأستفيد وأصغي باهتمام لا فقط إلي من هم أكبر مني سنا أو إلي مجايليَّ، وإنما أيضا إلي من هم أصغر مني سنا. ولي هذا الحرص علي أن أصغي دائما إلي الحساسية الجديدة، والذائقة الجديدة، ولا أخجل أبدا من الاعتراف بأنني أتعلم منهم كثيرا. لكنني أفهم أيضا أنه بعد تراكم معين، يبدو وكأن هناك أقطابا شعرية متجاورة أو تطل علي بعضها البعض كما لو أن الخريطة علي شكل أرخبيل. وهذا من حق الناقد أن يراه، وربما من حق القارئ أيضا، ولكن ليس من حق الشاعر أن ينظر إليه كثيرا، بل عليه حتى أن يتجاهل أنه محور أو ضلع من أضلع مثلث...
* لكنك في مراقبتك لهذا الأرخبيل ، إذا جاز التعبير، تظل ممسكا عن الكلام ولا تتحدث عن التمايزات أو الخصائص التي ترصدها من داخل مرصدك الشعري والجمالي. وأري أن خروجاتك قليلة جدا بهذا الخصوص؛ أذكر هنا نصوصك وشهاداتك النثرية الجميلة والمتألقة التي كتبتها عن سعدي يوسف أو المرحومة فدوي طوقان أو المرحوم محمد الماغوط أو المرحوم ممدوح عدوان...
** بشكل عام، أحذر من الدخول في جدال حول المسائل الشعرية الراهنة. أتحاشي ذلك، أتحاشي النقاش حول الخيارات الشعرية، حول أفضلية الشعر الموزون أو أفضلية قصيدة النثر. وكنت قد ارتكبت حماقات في السنوات الماضية، وأبديت آراء متسرعة أندم عليها. وأعتقد أن ليس من حقنا أن نضع أي موانع أمام أي تجربة شعرية جديدة. ليس من حقي أن أقول، ومن الخطأ أن أقول مثلا إن خيار الوزن أفضل من خيار القصيدة النثرية أو إن الشعر العمودي أفضل أو ليس أفضل من قصيدة التفعيلة (لكم أكره هذا التعبير!).
ما يعنيني شخصيا هو تجلي الشعرية في القصيدة، وما يهمني هو أن أقرأ شعرا سواء في القصيدة العمودية أو الحرة أو النثرية.
من ناحية أخري، بسبب حساسية العلاقات بين الشعراء أحذر كثيرا من إبداء الرأي في شعر زملائي وتسمية هذا أو ذاك. إن هناك حزبية شعرية عندنا، وأعتقد أن هذه الروح الحزبية تعكس أزمة ثقة بالذات. ينبغي أن يمر النص بدون كوادر حزبية، أن يعبر ويخترق ويصل بدون ترويج إعلامي. لذلك، فإن علاقاتي العامة سيئة جدا ولا أحرص علي ربطها.