لم ينتشله من آلام ذكرياته إلا لمسات يد الطبيب التي أمسكت بيده للتأكد من أن به حراك وبعدما تأكد من ذلك أخرج من حقيبته الصغيرة جهاز قياس ضغط الدم ليتأكد من اعتدال ضغط دمه واستقراره وبالفعل تأكد من ذلك فطمئن الطبيب كل العيون المملوءة بالقلق ثم طلب الطبيب من (إبراهيم)أن يحضر له نشادر ليفيق به والده.
انطلق (إبراهيم) علي عجل ليحضر النشادر فسأل والدته لكنها لم تجد له ما طلب فهب ينزل ليسأل الجيران بيد أنه تذكر زجاجة الكولونيا التي يضع منها بعد حلاقة الذقن فدخل الحمام ليحضرها ليعطيها للطبيب، كانت أكبر الإناث سناً بعدما سمعت طلب الطبيب الشاب الوسيم والذي حاز إعجابها قد هبت مسرعة إلي المطبخ حيث سحبت بصلة كبيرة من البصل المعلق علي النافذة المطلة علي منور البيت وحاولت أن تهشمها بيدها مثلما يفعل أباها لكنها فشلت فاستلت سكينا ًوشطرتها أربعا ً وانطلقت كالسهم إلي الحجرة بعد أن أقسمت في كنانة نفسها أن توقعن بالطبيب في شباك حبها ومن نظرة واحدة من عينها فكم هو مسكين ذاك الطبيب؟!
وما كل هذه الثقة والقوة؟! من أين لها هذا؟!
عند باب الحجرة تقابل الأخوين، («إبراهيم) يحمل زجاجة الكولونيا برائحتها المنعشة وهي تحمل البصلة المشطورة برائحتها النفاذة.
إيه اللي انتي جيباه ده يا مجنونة؟
قالها (إبراهيم) مضجرا ً واكفهر وجهه.
دلوقتي تشوف الجنان ده هيعمل إيه.
قالتها بعد أن عبرت الباب ودخلت الحجرة مسرعة، هبطت الفتاة علي رأس الطبيب كالصاعقة من السماء وأمسكت بيديه بحركة مباغتة ووضعت بها البصلة ثم بسطت شباك عينيها علي عينه وقالت مبتسمة:
خد يا دكتور فوقوا بدي وخلاص أصل مفيش نشادر.
هام الطبيب لحظات في الشذا الذي فاح من خصلات شعرها الناعم المسترسل غلي ظهرها حتى حاول (إبراهيم) أن يعطيه الكولونيا فرد عليه بابتسامة هادئة وقال: كفاية دي.
وأشار للبصلة التي بين يديه وصوب نظرة من عينه اللامعة ببريق الإعجاب لعين فتاته الرقيقة المتعطشة لتلك النظرة ثم قرب البصلة من خياشيم الرجل فاقد الوعي فبدأ يسترد وعيه شيئا ً فشيء، وعندها بدا في وجوههم نضرة النعيم وكأنهم سقوا من رحيق مختوم بعد ظمأ ممدود أو كأنها عودة الروح للجسد بعد الخروج.
حمدا ً لله علي سلامتك.
قالها الطبيب ورددها الجميع من بعده.
إيه اللي حصل!!
قالها (أبو إبراهيم) وصب معها قطرات التعجب من عينيه لهذا الوجوم والشحوب الصابغ للوجوه.
قلقنا عليك يا بابا، - المهم انته كويس يا حج
كلمات رددتها الألسن المتعطشة للاطمئنان وتبدلت معها الملامح إلي بياض السرور.
وثب (أبو إبراهيم) بخفة من الفراش قائلا ً :
جرى إيه يا ولاد، جرى إيه يا أم إبراهيم، هوه إيه اللي حصل؟!!
أسرع البكرى (إبراهيم) في طمأنة والده وأخبره بما حدث مخففا ً بأسلوبه البارع المعتاد منه وقبل أن يهب الرجل ليشكر الطبيب لمح في عين زوجه دمعة تتلألأ علي وشك الفرار فاقترب منها ولف ذراعه حول عنقها، أراد أن يكسوها بدفء الاطمئنان فقد كان يعلم أنها دمعة فرح وشوق ولهفة، فهذه عادتنا نحن المصريين نبكي عندما نفرح أو نحزن، ثم تنحي الرجل عن زوجه بجسده فقط لا بروحه واتجه يشكر الطبيب الذي كان منذ صغره في معزة أولاده فهو ابن جاره الحميم وزميل (إبراهيم) في المراحل الأولي من الدراسة حتى أنهما كانا لا يفترقا إلا عند النوم.
انصرف الطبيب الشاب مقررا ً الرحيل بسبب التزامه بمواعيد عمله في المستشفى وكان في وداعه في شرفة المنزل بالابتسامة الرقيقة وتلويح اليد فتاته الملهوفة لإيقاعه في أسر الزواج وأغلاله فقد عهدت فيه حسن الخَلق والخُلق وأملت أن تصبح له دعامة لازدهار مستقبله الواعد كطبيب ناجح، ورغم أنه تسرع في رفع بصره تجاه الشرفة مما جعل الفتاة تشعر بنجاحها في خطتها إلا أنه لم يستطع رد وداعها عليها بطريقتها العاطفية الرقيقة، فلأنه شاب طموح يحلم بالعلا ويطمح في المجد والثراء ولأنها وأسرتها ليسوا من ذوى المال والجاه تراجع سريعا ًليفر من شظف العيش وقبل أن يخطوا أولى خطواته للخوض في مثل تلك التجارب الصعبة ولكي
لا يندم علي فرصة أن يكون رجل سنيم مضى في طريقه وترك فتاته ترسم وتبنى في قصور أحلامها وحدها.
الشره إلي الطعام بشهوته أمر لم يكن مستغرب من (أبو إبراهيم) وأهله بعد هذا اليوم الشاق وبعد تلك الرحلة السريعة في الذكريات والتي عاد منها للتو ظمآن جوعان قلق مرتاب يشعر أنه خرج من المولد بلا حمص كما يقولون في الأمثال الشعبية بل والأمَر من ذلك ساء حاله فصار أسوء من الشحاذين، لا يملك من الدخل إلا مرتبه الزهيد ولم يستطيع أن يدخر شيء لأولاده يعينهم علي مصائب الدنيا وصعابها، عندما جلست العائلة إلي المائدة الخشبية المستديرة المعدة سلفا ً قبل أن تحدث تلك الأحداث تناسوا ما حدث وامتدت أيديهم للطعام منعدم الرائحة وباهت الألوان ثم فتح باب الحديث علي مسرعيه فتبادل الجمع أطرافه بداية بالمسلسل العربي الذي شاهدوه وهم يأكلون بشراهة واضحة وكأنهم يفرغون آخر طاقتهم في التهام الطعام وعلق (أبو إبراهيم) علي الحلقة بشزر وقال :
- ده تافه، وبيتكلم عن ناس تانيه غيرنا، وعن دنيا غير دنيتنا.
وعلقت الأم قائلة:
نفسنا في مسلسل يتكلم عن الناس المطحونين الغلابه، وعن الغلب اللي شيفينه في حياتهم، وعن العيشة اللى بقت صعبه قوى علي الفقير، ما هو أكتر المصريين فقرا!!
أما الحديث الأجدر بالاهتمام فكان ذالك الحديث وتلك التعليقات الحادة المتطرفة أحيانا ً حول نشرة الأخبار التي حين تابعوها صرفت عنهم شهيتهم فلم يعد في الأخبار إلا مشاهد الحروب والقتل وسفك الدماء خاصة العربية المسلمة منها، تلك المشاهد المحبطة التي تقزز المشاعر وتدمى القلوب وتكاد تذهب بالعقول.
الوحيد الذي لم يتكلم طوال الحديث كان (إبراهيم) فنادرا ً ما علق علي ما يجري أمامه فقد كان شارد الذهن حزين يعتصره التفكير في المستقبل الغامض وتحقيق الذات، فكيف سيشعر بالاستقرار والأمان وهو يعمل عمل مؤقت بسيط لا يتوافق مع عقليته أو قدراته؟!!
ومتى سيستطيع التفكير في الزواج وتكوين أسرة وقد تعدى الثلاثين؟!، وكيف ومتى سيقدر علي معاونة أبيه الضعيف علي أعباء أسرته؟!، ومتى...؟!!، ومتى...؟!!
أسئلة عديدة عالقة بلا إجابات اعتلجت الهموم في صدره.
انتبه الأب وحده لشرود ابنه ووجومه فشاركه قلقه علي المستقبل باهت الألوان والملامح وبحركة مباغتة سريعة وحدس فائق استشف الأب حاجة ابنه لنزهة ترفه عن نفسه وتجدد نشاطه وتهدئ أعصابه وبالفعل عرض الرجل علي ابنه الأمر فوجد ترحابه بالفكرة خاصة وانه اعتذر عن العمل هذا اليوم.
بعد الفراغ من تناول العشاء واحتساء رشفات الشاي بالنعناع الأخضر المميز الذي لا يقاوم انصرف الجميع كل إلي مقصده فالشباب والفتيات اتجهوا لحجراتهم يتسامرون ويتشاكسون والقليل منهم جلس يذاكر ولكن بلا تركيز، وخرج (إبراهيم) بصحبة صديقه الذي اتفق معه علي الخروج للتنزه علي ضفاف النيل الخالد وكان ثالثهم الترمس ورابعهم الذرة المشوي واطمئن كل منهم علي حال الآخر وحمدا الله كثيرا ً علي ما هم فيه ثم جاء رثاء كل منهم علي نفسه وأحلامه وقصر اليد وضيق الحال.
أما الفتاة العاشقة فاستلقت علي فراشها هائمة متيمة ممعنة لنجوم المتلألئة علي غير عادة والراقصة علي نغمات دقات قلبها الكليل، تشتعل رأسها تفكيرا ً في الحبيب المرغوب والحب المأمول حتى غابت عن دنياها وذابت كقطعة ثلج في صيف ملتهب، ولم تستطع ضحكات إخوتها الذين استثارهم شكلها المثير أن توقظها من غفوتها.
أمام موقد المطبخ وقفت (أم إبراهيم) تشعل بعض قطع الفحم لتبخر زوجها وبالفعل حملت المبخرة الفخارية الكبيرة وعبرت الصالة مرورا ً علي المذياع الذي فتحته علي إذاعة القرآن الكريم والذي سيظل صادحا ً بالذكر حتى الصباح ليؤنس وحشة وظلمة الليل ثم دخلت حجرتها حيث كان (أبو إبراهيم) راقدا ً علي فراشه ويضم لصدره أوراقه يكتب فيها، وبنظراتها اللامعة بالسرور داعبته مطمئنة علي حاله ثم طلبت منه أن يعتدل في جلسته لتبخره وترقيه من العين المدورة الحاسدة، فتململ الرجل سريعا ً وبسر وجهه في غيظ ونهرها بشدة مستنكرا ً ما اعتادت أن تقدم عليه ثم ذكرها بآيات القرآن الحافظة من كل الشرور طالبا ً منها أن تستعيذ بالله من الشيطان وتسكن فراشها لتنام وأخبرها أنه سيسهر قليلا ً ليكتب ثم يتبعها للنوم.
قبل بزوغ شمس الصباح ومع اختلاط ترانيم المنشدين في المساجد وأهازيج عصافير الصباح استيقظ (أبو إبراهيم) علي صوت آذان المنبه فأيقظ أهله وسريعا ً ما استعاد نشاطه بعدما أسبغ الوضوء وخرج لصلاة الفجر.
تأخر (أبو إبراهيم) سويعات لإحضار حاجيات الصباح لم يكن ليشغل (أم إبراهيم) في العادة ولكن علي غير العادة اجتمع عليها في هذا الصباح القلق والخوف من الغياب وطول الانتظار وكالبندول واظبت علي النظر من الشرفة والنظر إلي ساعة الحائط حتى أثلجتها رؤيته عائدا ً معافى محملا ً بحاجيات الإفطار والخبز الرديء الذي يعاني الأمرين منه فعند إتيانه معاناة وحين أكله معاناة أخري ربما تنتهي بك في عنبر في مستشفي حكومي، وسريعا ً تناول الرجل طعام إفطاره مع بعض من أهله وجاءت لحظة الفراق الحاسمة حين انصرف الرجل بلا وداع فقط احتضنته زوجته بنظراتها وقبلته في جبهته بعينيها حتى غاب عن بصرها.
توقفت حافلة كبيرة مكدسة بالبشر وكأنه يوم الحشر علي الجانب الأيسر للطريق الذي يشغل محل عمل (أبو إبراهيم) جانبه الأيمن ودُفع الرجل منها دفعة شديدة فسقط علي الأرض وكأنما سقط من ارتفاع شاهق، رغم ذلك نهض واقفا ً بخفة غير متوقعة من ملامح مثل ملامحه الشائخة، ثم عبر الطريق عدوا ً رغم خطورة ذلك لازدحام الطريق بالعربات والحافلات الكفيفة الطائرة وما لبث أن وضع قدمه اليمني علي الضفة الأخرى للطريق حتى وجد أمامه نفس الشحاذ الذي أراد الله أن يجعله سببا ً في رحلة معاناته التي قطعها في اليوم السابق فكلح وجهه وجحظت عيناه وأقسم الرجل الوحيد الذي رأى الموقف أن شيبه ازداد بياضا ً ثم تقهقر إلي الوراء خطوتين وفي الثالثة احتضنته سيارة طائشة فأردته أرضا ً ثم نزل سائقها الشاب المتأمرك وحمله بسرعة وألقاه بالسيارة وانطلق إلي أين؟! لا ندرى!!
عند تلك اللحظة اختفي (أبو إبراهيم)، صار مآله المجهول فقد اختفت السيارة التي كانت تحمل لوحة أحد الجمارك ولم يستدل علي صاحبها- وكأنه فص ملح وذاب - وبهذا افتقدنا طريق الرجل وجهلنا مصيره وصرنا لا نعرف له فراشا ً ولا قبرا ً، وعليه لم تغمض لأهله عين ولم يزوقوا للنوم طعما ً.
هل هام الرجل علي وجهه في الأرض وآثر الفرار من واقعه أم قصدته رحمة ربه وهو أسير قلقه؟!!...أيضا لا ندرى!!
فعجبا ً لحال الرجل، قضى عمره قلقا ً رغم إيمانه ولم يكتب له أن يرى ما خبئ له القدر من خير،فلقد طالعتنى الصحيفة اليومية بخبر اختفاءه فحزنت بشدة لمصاب العائلة وأسرعت بالسؤال عليه في بيته وبعد أن قمت بتعريفهم بنفسي عرضت عليهم المساعدة في البحث عنه وبالفعل قمت باتصالات عديدة متفرقة وطرقت أبواب جديدة لم يطرقوها وأثناء ذلك ترددت كثيرا ً علي بيت الرجل وتوطدت علاقتي ب(إبراهيم) وإخوته ثم خفق قلبي بحب ثاني أكبر البنات سنا ً فقد اعجبتني أنوثتها وعشقت جمال أخلاقها وأحببت لباقتها وحسن لسانها ومنطقها ولم أعد أتمالك نفسى وأنا أنعم بقربها فباتت تسقط مني كلمات ونظرات لاحظها الجميع وبت أنتظر الفرصة المناسبة للتقدم لزواجها لأرفع الحرج عن نفسى وعنهم ومضت فترة من الزمن كانت بالحق صعبة خاصة عندما هل علينا رمضان بنفحاته الذكية ولياليه العامرة ثم تلاه العيد وكانت تلك أول مرة في عمر العائلة تنقضي فيها تلك المناسبات في ظل غياب الرجل بوطأته الثقيلة التي اكتنفتنا جميعا ً ولكن ماذا نفعل؟!!
فبعد أن أغلقت كل الأبواب أمامنا لم يعد لنا غير تقبل الواقع المرير والرضا بالمكتوب علي الجبين.
تحرك الزمن وتحركت معه وتقدمت لفتاتي وسريعا ً ما أتممت زواجي وكان والحمد لله زواجا ً مباركا ً، فصدق حبيبي المصطفي حين قال : خير متاع الدنيا الزوجة الصالحة
فكم كانت حياتنا الزوجية هادئة مستقرة، ولأنني تعمقت في حياة زوجتي وقبل أن تطلب مني مساعدة عائلتها تشاورت معها في الأسلوب الأمثل لتقديم المعونة لهم مع الحفاظ علي سموق كبريائهم وبالفعل اتفقنا وباتت كلما ذهبت لزيارة بيت عائلتها الأشم حملت معها من الهدايا الكثير وأعطت لإخوانها وأخواتها الصبية ما يلزمهم من مصاريف الدراسة ومستلزماتها لكن الهم الأكبر الذي واجهنا هو مساعدة (إبراهيم) عائل الأسرة الجديد علي عبء بيته ومستقبله فعرضت عليه مرة من المرات أن يعمل معي في التجارة مقابل مرتب كبير أو حتى نسبة من الأرباح وذلك كوضع مؤقت فقط حتى أجد له فرصة عمل مناسبة لتطلعاته بيد أنه يومها استشاط غضبا ً مني ونهرني بشدة حين شعر أني أصبت كرامته وعزة نفسه وهي أغلي ما يملك ثم عاد هادئا ً يؤكد لي أنه لن يعمل معي أبدا ً فلي طريق وله طريق ثم أقسم أننا لن نقتسم طريق أبدا ً وعندما حاورته عن السبب قال :
يكفي أننا أصهار ولن أسمح بأن يقال لأنه نسيبه، لذا أفضل الابتعاد
ولرجاحة كفته تركته وشأنه لكنني عاودت المحاولة مرارا ً بعدة أشكال وعن طريق زوجتي لكنه ظل يقاوم حتى صار الأمر كمحاولة المرور من طريق مسدود.
تقدمت عقارب الزمن إلي الأمام ورزقت بابني البكرى (عبد الرحمن) ومن َ الله علي ّ بسعة الرزق ورغد العيش وازدادت عندي أيضا ً يقظة العقل فلله الحمد من قبل ومن بعد،أما زوجتي وأهلها فمازالت سحب ذكري أبيهم تظلهم في غفواتهم وصحواتهم بظلالها ثقيلة الكآبة المفعمة بمرارة الفراق بلا وداع رغم ما مر بهم من أيام نحسبها أيام أفراح، فلقد تزوجت أختها الكبرى وخطبت الصغرى وكبر إخوانها الصبية فصاروا شبابا ً يسر منظرهم الناظرين، أما الأم العجوز فقد ساءت أحوال صحتها مع تقدم عمرها وأصبحت ممن يعانون شكة إبرة (الأنسولين) كل صباح وفي المساء، يا له من مرض لعين؟!،أما الوحيد الذي صمد أمام الدهر وأفعاله كان (إبراهيم) فهو كما هو رابط الجأش ثابت العقيدة والعقلية فقط أصابته بضع شعيرات بيض علت جبهته التي اتسعت قليلا ً فزينت وجهه.
يوما ً ما ونحن في زيارة لأهل زوجتي اشتممت رائحة الحزن في العيون ذات الحمرة والعائدة للتو من رحلة بكاء بعيد وعندما تساءلنا أنا وزوجتي عن السبب جاءني الجواب فيما رأيت (إبراهيم) يضمه لصدره من كشكول كبير أوراقه صفراء رطبة كتب علي غلافها الأمامي كلمة (يوميات) ببنط كبير وأسفل منها رقم(1).
عرفت بعدها أنه واحد من أحد عشر كشكول تضم يوميات (أبو إبراهيم) المبدع وبها خلاصة تجربته في الحياة والتي اكتشفت قدرا عندما قاموا بحملة نظافة واسعة النطاق في الشقة وطلبت من (إبراهيم)أن اطلع علي جزء منها ووافق بعد أن وعدته بالمحافظة عليها لأنهم اعتبروها ميراثهم الثمين.
قرأت الجزء الأول من اليوميات بشغف وعلي مهل وحين أسرتني اليوميات طلبت من (إبراهيم) صورة ضوئية من اليوميات كاملة لأطلع عليها واحتفظ بها عندي، بعد أن انتهيت من القراءة أسرعت بالذهاب ل (إبراهيم) وكان هو الآخر انتهي من القراءة وحدثته عن أهمية نشر اليوميات وفوجئت بحماسته هو الآخر للأمر لما رأيناه فيها من حكمة وبلاغة وفلسفة وطلاوة.
نشر أي كتاب أمر صعب ويحتاج مشقة وعلاقات لذا أخذت الأمر علي عاتقي وطلبت من (إبراهيم) ألا يشغل باله وبدأت أنا الطريق بعرض أجزاء من اليوميات علي معارفي وأصدقائي من المهتمين بالثقافة والآداب ووجدت ترحابا ً شديدا ً بها مما أوهج حماسي وقواني لأكمل العمل فأرسلت بمقتطفات منها لعدد من الجرائد والمجلات الثقافية وانتظرت أن أري الرد علي صفحاتها لكن وللأسف لم تلتفت أي منها لما أرسلته ولا أدري العيب فيهم أم في مصلحة البريد ثم تطورت معي الأمور حتى ظننت أن أحدهم سرقها ليعدل فيها ويضيف من عنده القليل لينسبها لنفسه ولكن ما فائدة الظنون؟!....لا شيء.
مر بعض الوقت وتسلل قليل من اليأس إلي قلبي وبدأ (إبراهيم) يسألني عما جد في الأمر؟ وأخبرته أنني قررت السفر للعاصمة حاملا ً اليوميات لأعرضها بنفسي علي بعض دور النشر والصحف وتذكرت أنا و(إبراهيم) رحلة الرجل القديمة التي لم تتحقق، ها هي تتحقق اليوم وفعلا ً أعددت نفسي لتلك الرحلة المعركة وكان حقا ً يوم شاق عاقر فقد رجعت في نهايته أجر فشلي، فأغلب من ذهبت لمقابلتهم رفضوا مقابلتي من الأساس أو بالأدق تهربوا واعتذروا بحجة الانشغال طالبين مني ترك نسخة منها للإطلاع عليها،أما من تعطف عليّ وقابلني ورأى حجم اليوميات قال بصراحة أنه لا يستطيع نشر عمل كبير بهذا الحجم مهما كانت جودته وذلك بسبب الأزمات المالية الطاحنة التي تمر بها معظم دور النشر بسبب ارتفاع تكلفة الكتاب ونزوح القراء خاصة الشباب منهم عن القراءة.
لما وصل الأمر لتلك النقطة عند حافة الهاوية استخرت الله علي ما تفتق عنه عقلي من فكرة متهورة ولما وجدت نفسي مازلت متحمسا ً للأمر بشدة وعندي العزم علي إتمامه ذهبت ل (إبراهيم) أتفق معه وتعجب لما حدث لي في رحلتي وذهل عندما أخبرته بأنني قررت نشر اليوميات علي نفقتي الخاصة وحاول جاهدا ً أن يردني عن تلك الفعلة لكني لم أرتد!!
واتفقنا أن نقتسم الربح إن جاء، واخترت واحدة من دور النشر ممن سمعت عن حسن اختيارهم لإصداراتهم وأبرمت معهم اتفاق علي طبع ونشر ألف نسخة من اليوميات وما أن نشرت اليوميات وبدأت الدعاية عنها حتى انهالت عليها مقالات الثناء في كل المجلات والصحف وخاصة ممن أحضرت لهم الهدايا والعطايا وأصبح (أبو إبراهيم) سجين غيهب الغيب بين يوم وليلة نجم ساطع في سماء الأدب والفلسفة وأسرعت اشهر الصحف علي إجراء مقابلات صحفية مع أسرة الرجل لتسلط الضوء علي حياة مبدع قضي عمره يبحث عن شعاع نور يعينه علي الطريق فلم يجده حتى رحل في صمت.قبل مرور الشهر الأول كانت الألف نسخة المطبوعة من اليوميات قد نفدت، سررت لهذا الخير ومعي (إبراهيم) خاصة للدوى الذي أحدثته اليوميات ثم للربح المادي الذي تحقق من النشر، وقررنا طبع عدد آخر من فطبعنا ألفين فنفدت فطبعنا ألفين آخرين فنفدت فقررنا طبع عدد كبير فطبعنا أربعة آلاف مرة واحدة ثم جاءت المفاجأة حين طلبت أكثر من دار نشر أجنبية شراء حق نشر اليوميات لتنشر مترجمة في كبري مكتبات العالم وفعلا ً باع (إبراهيم) حقوق نشر اليوميات بمبلغ ضخم بعدما استشرنا مجموعة من المتخصصين ليصبح (إبراهيم) بقدر الله من الأثرياء ولتتحقق كل أحلامه وطموحاته، أما أنا فقد ربحت والحمد لله من وراء نشر اليوميات ما جعلني أتفرغ للكتابة لعلني أكتب يوميات تشبه يوميات (أبو إبراهيم).