كبرياء النخل والموت ... د. مصطفى الضبع
التاريخ: السبت 01 مايو 2004
الموضوع: نقد
ترقينات نقدية
محمد العسيري : كبرياء النخل والموت على قارعة القصيدة
من صغري غاوي المدن
وبنات المدن
والعيش الإفرنجي ص80
ما الذي يفعله الصعيدي في القاهرة غير أن يحبها بوصفها رمزا لكل ما هو جميل ، يمنحها ما يجعلها تحيا ، ولكنها تقابله بالموت ؟ ، وما الذي يجعل من المدن مغوية لهذا القادم بريئا ، صامتا غير أنها تجندله في طرقاتها ، وتحرمه الحياة ؟
إنها حالة الشاعر الإنسان الذي يبدأ حياته في محيط يزرع في قلبه الحب ، حب الحياة والمدن :
هناك..... في الصعيد الجواني
ف بلاد الحبايب والونس
ما فيش شوارع ...
ما فيش عسس ... بيسموه الطريق . ص 53
وهي صورة حقيقية لحياة هادئة ليست من وحي الطفولة الغريرة ، أو من طرح الذاكرة البعيدة الواهمة ، فالصور المستمدة من مرحلة الوعي تؤكد الخط نفسه :
في أول الرجولة
عرفت البيوت من غير قمر
والبيوت اللي من غير شمس
والعيون اللي بتضحك وبتبكي
مش بالحنان .. أو م الحنين
لأ .. م اللمس ص 81
، ولكنه القدر كما في الأسطورة القديمة ، (عاشق تروح لقضاك) ص 25 أن يبتعد الشاعر عن هذا المحيط ، فيكون في ابتعاده عذابه ، ويكون عقاب الآلهة لتمرده على محيطه ، ولعشقه ما لا يحق له أن يعشق ، وكان عليه أن يدفع ثمن انتقاله من حياة حقيقية إلى حياة مزيفة :
لما ابتعدنا .. عن بلادنا ...
التقينا بيوت ...
والتقينا حيطان ..
بس مش لينا
بس مش زينا
نشوف الموت وما يشوفناش
ندوقه ... ونرمح ورا شوقه
وما يدوقناش ... ص 83
ويظل الإنسان معذبا بما فعله قلبه ، يسعى للموت بوصفه وسيلة الراحة ولكنه لا يصل إليه ، فالمدينة تمعن في تعذيبه ، قد يتوهم أنها تحبه ، ولكنها أمنا الغولة (في الحكاية القديمة) ، تعطف لتقسو، وتغذي لتفترس .
ثلاثة أصوات كاشفة
1-
" يا نخل لو تنحني
تبقى أنت مش نخلي ".
2-
ما دبرتش تمن الشبكة
لكن كتبت قصيدة جديدة
عندك مانع تسمعني ؟!
3-
لابد لي بين الدمع والنني
قاصد يجنني
زي خالد عبد المنعم
وكأنه لجرحها مندور
يعني هوه أحسن
من عبد الرحيم منصور
هما كده ....وهيه كده
حافضانا ...واحد... واحد
راصدانا ..... واحد... واحد
ولكل واحد دور ..
وده دور البرنبالي ص 104
ثلاثة أصوات بمثابة المفاتيح ، لا تتوقف عند كونها نصوصا تعبر عن تجربة محمد العسيري في ديوانه الجديد " شوية هوى" ، وإنما تقدم بداية الكثير من الإشارات الدالة على ما يطرحه الديوان من مادة شعرية قادرة على أن تقدم الشاعر بوصفه صوتا يمتلك من الوعي ما يمكنه من أن يقدم رؤيته الخاصة المعبرة عن هموم وطنه ، وأن يخرج من ذات انغمس الشعراء فيها ، وداروا حولها كثيرا ، وهي أولى مميزات النص العامي الجديد الذي لا ينحاز للذات كثيرا ، ولا يتغنى بشخصية ذاتية لم يعد لها وجود بعد أن تآكلت بفعل: ضعفها الخاص ، وعوامل السلطة ، وغياب وعيها القادر على أن يجنبها هذه العوامل المؤدية لهلاكها ، ولكنه يقدم عالما مشكلا من ذوات أخرى ، حيث تذوب الذات في تفاصيل الآخرين ، وتمنح نفسها القدرة على أن ترى نفسها فيها ، أو عبرها ، تفعل القصيدة العامية ذلك في الوقت الذي انكفأ فيه الكثير من شعراء الفصحى على ذواتهم يتغنون بمجد إنساني زائف أو يرون عالمهم عبر لغة لم تعد قادرة على أن ترى العالم أو أن تكشف عنه بالقدر الكافي لأن يرى المتلقي عالمه هو لا عالم الشاعر الذي يعبر عن لحظة شديدة الخصوصية في وقت عليه أن يتخلص من ذلك (بعضه أو كله) لصالح الآخرين / المتلقين .
لقد كسبت القصيدة العامية أرضا جديدة تمثل خطوات نحو المتلقي معبرة عنه قادرة على أن تجعله مرددا لها كاشفا نفسه من خلالها .
والأصوات الثلاثة السابقة تقدم نفسها بوصفها مفاتيح لقراءة الديوان على مستوى الطرح العام ، طرح المعنى أو الموضوع ، والفكرة المعبر عنها ، ثم على مستوى البناء الفني الكاشف عن تقنيات الكتابة عند محمد العسيري ، فالصوت الأول المعبر عن كبرياء النخيل الرافض للانحناء ، وهو ما ينسحب على نصوص الديوان المصورة الإنسان المصري في تحديه الفناء ، فالديوان يكاد يكون ملحمة متعددة الوجوه لهؤلاء الأشخاص المتمردين على القهر والموت والفناء ، لذا فأنت على موعد للقاء شخصيات ليست من صنع الخيال أو ليست رموزا مصنوعة لصالح النص فقط ، أو ليست أبطالا من ورق ، أو من كلمات ولكنها شخصيات بنت واقعها الذي تتمرد عليه ، فقد أراد الشاعر لهذه الأسماء أن تكون مدارا لصورته الواقعية : عمر نجم ، فاروق الشرنوبي ، فارس خضر ، عمر أنس ، محمد مسعد ، سعاد حسني ، طاهر البرنبالي ، خالد عبد المنعم ، عبد الرحيم منصور .، وأن تمثل أصوات الحياة في أروع تجلياتها ، وليس مجانيا أن يكون النص الأول مصورا الشاعر(غير) الراحل عمر نجم الذي يطرحه النص شخصية نابضة بالحياة لم يمنعها الموت من أن تمارس علاقتها بأصدقائها ، والشاعر عندما يخاطبه يستحضره ممارسا هذه الحياة من ناحية ، ومن ناحية أخرى يستجير به ، أو يستعين به على الحياة القامعة التي لم يجد فيها من يحاوره في لحظة الحنين ،لاجئا إليه من قسوة الحياة ، والأزمة طاحنة على الجميع :
ما أنا أصلي ضهري انتنى
من كتر ما اتألم
ما يغركش صوت مغناي
ونفر العروق جواي
......................
الناس من تقل الأزمة
مش حاسة خبط الجزمة على الطرقات
الناس زي الجزمة
عمالة بتحرت في الميادين وخلاص ..
عمالة بتفرم في الأيام وخلاص ...