الطيب صالح: الانسياق كليا وراء سراب الفن قد يؤدي إلى نتائج خطيرة جدا
14/02/2007
حاوره : جهاد فاضل
إذا ذكر الطيب صالح في مجلس ادبي، تداعى الى الذهن الروائي السوداني الكبير الذي كتب 'موسم الهجرة الى الشمال'، و'مريوو' و'عرس الزين'، و'المنسي' حديثا. ولكن الطيب صالح ليس مجرد روائي، فهو في الواقع شخصية ادبية خصبة. من مظاهر هذه الشخصية اهتمامه بالتراث الادبي القديم، بالمتنبي والمعري على الخصوص، وكذلك بالثقافة الانسانية المعاصرة. وقد صدرت خلال الاشهر الاخيرة، وعن دار رياض الريس في بيروت، عدة اعمال ادبية، غير روائية، تتضمن بعض ما كتبه على مدار حياته. وفي حوارنا التالي معه تتبدى جوانب هذه الشخصية الادبية بوضوح. يبدي الطيب صالح في هذا الحوار آراء في منتهى النضج حول العملية الادبية من اساسها، حول الكتابة، وحول التقاليد الادبية. بودلير الشاعر الفرنسي لم يكن مجرد جليس خمارات، وانما هو ناقد عظيم كما هو شاعر عظيم. المعري في جوهره شاعر وليس فيلسوفا او منظرا او واعظا. ليس لزاما ان يتخصص الكاتب في نوع معين من الكتابة، وانما يمكنه ايضا الا يتخصص، الفن يلتهم الحياة والانسياق وراء سرابه قد يؤدي الى نتائج خطيرة.
الى آخر هذه الافكار التي تدل على اننا امام مثقف خطير لا امام روائي كبير فقط!
وهذا هو محضر الحوار مع الطيب صالح وقد بدأ بسؤال عن ابي العلاء المعري.
بدأت اقرأ اكثر شعر المعري من زمان حينما قرأت 'سقط الزند' اكثر من 'اللزوميات'. ولكن في السنوات الاخيرة؟ داومت على قراءة 'اللزوميات'، وقد عجبت للعذوبة في شعره. وقد شبهته في بعض ما كتبت بذي الرمة. كلاهما غامض، تحت هذا السطح من.. كلاهما اللغوية الغريبة، وما يبدو من الغاز وغموض، ثمة عذوبة عجيبة جدا.
ينتابني الحزن وانا اقرأ المعري، دائما احس بحزن وانا اقرأه، هذا انسان وحيد في الكون. وهذه الوحدة او الوحشة وصلت الي رغم كل الغموض الذي قد يكون تعمده الشاعر.
انا نظريتي - وهذه ايضا نظرية شخصية بحتة وانا لست استاذ ادب - ولا حد عاوز مني حاجة - ان ابا العلاء شاعر اساسا. واذا قبلنا هذا تنحل كثير من المعضلات.
انا اشكرك لأنك زودتني بكتاب الشيخ عبدالله العلايلي عن ابي العلاء: 'المعري ذلك المجهول'. ناس كثيرون كتبوا عن فلسفة ابي العلاء، وقالوا عنه انه فيلسوف.. والاكيد انه ليس فيلسوفا. هو ليس فيلسوفا بمعنى ان ابن رشد كان فيلسوفا، او كانط او هيغل. لم يكن عند ابي العلاء فلسفة. كانت عنده تساؤلات في الكون. وهذه التساؤلات موجودة حتى عند شاعر عابث وماجن مثل ابي نواس، ابو نواس قدم اسئلة من ذلك النوع، بمثل حدية ابي العلاء.
المعري في رأيي شاعر كبير وليس شاعرا سهلا.
.. أبكت تلكم الحمامة ام غنت على فرع غصنها المياد'
- انظر الى هذا السؤال. انا اتساءل في ديوانه 'سقط الزند'، وهو يتضمن شعرا عذبا جدا لا خلاف في عذوبته. خذ مثلا قصيدة من قصائده تعجبني جدا، وهي القصيدة التي قالها حينما ذهب الى العراق. وقد يكون قالها بعدما ترك العراق، ومطلعها:
طربنا لضوء البارق المتعالي
ببغداد وهنا ما لهن ومالي
هذه القصيدة منها البيت الشهير الذي يقول:
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما
رماني إليه الدهر منذ ليالي
وفيها الابيات العجيبة يصف فيها حنين الابل الى مرابعها في الشام، وهي تقف عند القراص، ملتقى المياه بالبصرة، وعندها الماء والخضرة، لكنها هي لا تريد ذلك، تريد مرابعها في الشام ومنها نهر قويق الصغير وأشجار تلك المرابع، هذا ما كانت تريده.
هذه القصيدة فيها فن عجيب، الابل التي تتحدث عن الابل.
تلون زبورا بالحنين منزلا
عليهن فيه الصبر غير حلال
وأنشدن في شعر المطايا قصيدة
تناقلن عن عم لهن وخال
الشاعر الذي قال هذا في 'سقط الزند'، كيف تحول فجأة إلى فيلسوف وواعظ ومنظر؟ أنا لا أظن.. إحساسي ليس كذلك.
يخيل إلي وأنا أستمع إليك ناظرا في تراثنا الشعري وغير الشعري، وخبيرا واسع العلم به، أنك باحث ولست روائيا، وأنت المعروف قبل كل شيء بأنك روائي كبير ولك في الرواية أعمال خالدة.. هناك روائيون عرب معاصرون لنا لا يعرفون شيئا لا عن التراث ولا عن المعاصرة، ولا عن اللغة العربية بنوع خاص، ذلك انهم يكتبون بلغة عربية ضعيفة أو ركيكة، وغير أدبية على التأكيد، فكيف تسنى لك أن تكتب الرواية وأن تكتب الأدب أيضا.
والله يا أخي نحن حين نقرأ سير الذين كانوا قبلنا، نجد ان الرجل كان فقيها وكان شاعرا، وكان أحيانا يفهم في الموسيقى هذا طبعا ينبغي أن يترك للباحثين لكي يستقصوه. العقل العربي المعاصر قسمناه إلى غرف كل غرفة نضع فيها شيئا. يقولون لك إذا كان مهندسا فمعنى ذلك انه لا يحب اللغة. وإذا كان طبيبا فإنه ليس له اهتمام بالشعر لماذا؟ العقل الانساني مستعد لتقبل كل هذه الأشياء.
أنا أحب اللغة العربية منذ صباي والشعر يطربني، وأنا لا أزعم شيئا اختصصت به، أنا أظن ان غالبية السوادنيين على الأقل من الجيل الذي أنتمي إليه والذي بعدنا بجيل، والجيل الذي قبلنا كانوا يحبون اللغة العربية. ولذلك تجد مثلا رجلا مثل المرحوم محمد أحمد محجوب، كان مهندسا ثم أصبح محاميا، ثم أصبح سياسيا، وأصبح رئيسا للوزراء وهو شاعرعنده غزل من أجمل ما يمكن.
عندنا أطباء يمكن أن يكونوا شعراء، أساتذتنا القدماء وجهونا هذا التوجيه. وهذا موجود عند سوانا من الشعوب أيضا، أنت لا تجد عند الإنكليز شخصا متعلما مهما كان، لا يحسن لغته، أنا أغتاظ عندما أركب بعض الطيارات العربية وتأتي المضيفات لتقديم الإعلانات، تجد لغتهن العربية لغة مهلهلة ومكسرة، بينما المضيفات الأجنبيات هن غير ذلك. في الطيارة نفسها، إذا كانت هناك مضيفة إنكليزية وأعلنت باللغة الإنكليزية فستجد ان لغتها الإنكليزية سليمة واضحة.
تجد المهندس الإنكليزي إذا وقف يتكلم، فإنه يتكلم بلغة إنكليزية سليمة. لماذا نظن ان لغتنا هذه عبارة عن سقط متاع، أي لغة غير مهمة؟.. علما بأن اللغة هي كل شيء، هي عصب كل شيء.
ونشأت عندنا أجيال تظن ان اللغة العربية غير مهمة، إذا كان هو أخصائيا في الطب، خلاص! كفاية عليه.. لا!
هذا مش كفاية.. التواصل مهم جدا.
'اذا كنت ما تكرمت به علي صحيح، فأنا ادين لاساتذتي في ذلك'
هناك نظرية يتبعها كثيرون مؤداها هو لزوم تخصص او اختصاص ما. يقول هؤلاء ان الزمن اليوم هو زمن التخصص. افضل للروائي بنظر هؤلاء ان يكون روائيا فقط لا غير. وكذلك للشاعر. بصرف النظر عن ضرورة ان يتقن المرء لغته القومية، فهذا الاتقان ينبغي ان يكون من حصة الجميع.
هذه النظرية قابلة للجدل، الاوروبيون هم الذين ابتدعوا حكاية التخصص وحكاية 'الاسبمبلي لاين' في انتاج السيارات مثلا، يقولون لك: الثورة التي عملها نورد، اي انه اكتشف الامر التالي: السير ماشي، وكل واحد يضع قطعة صغيرة من السيارة.
هذه الفكرة ابتدأت تكون عرضة للجدل حتى في اوروبا، اذا ساروا في هذه الفكرة الى نهايتها، ينشأ انسان هو عبارة عن آلة، هو نفسه يكون اقرب ما يكون الى كرسي الآلة.
الذي يميزنا هو قدرتنا على النظرة الواسعة الرحبة، لكن هذه يجب ان تبنى على فهم، لا على مجرد واحد يتشاطر، يقول لك: اجل هذا هو الحل! لا، اذا نحن احسنا تنمية الشيء الذي هو في طبعنا لعلنا نصل.
ثم انك تلاحظ حتى من تجاربك الشخصية: حينما نقابل طبيبا اختصاصيا كبيرا، هذا الطبيب تجد انه قرأ روايات، ويسمع موسيقى وعنده قدرة على تذوق الغناء، وله شعراء او شاعر مفضل، اكيد يكون هذا الطبيب ارحب وأخصب وأكثر تحضرا من آخر لا يفهم الا هذا التخصص فقط، ولا يعرف شيئا آخر.
وبالمناسبة يجب ان اعترف بانني انا حاولت ان ادرس العلوم وفشلت، قد يكون ما اقوله نوعا من التبرير، او ما يسميه الانكليز 'ثاور غريمس'، اي العنب المر، اي لأنني غير متخصص بشيء، جايز، لكن ارجو ان لا يكون كذلك.
عندما يذكر الطيب صالح تذكر فورا روايته موسم الهجرة الى الشمال، كما يذكر لافونتين بقصائده التي تدور على ألسنة الحيوانات، وتماما كما يذكر شكسبير، اكثر ما يذكر، بهاملت او بعطيل.. ثم، وفجأة تركتم هذا العالم الروائي الى مجهول ما لا ادري ماذا اسميه، لقد كنتم مهيئين لكي تكونوا الراوي الساحر للرواية العربية، فيا للخسارة.
انا لا ارى ان هناك انقطاعا، ما دام ان هناك نشاطا فكريا، او طاقة تعبر عن نفسها بنوع من الانتاج، فلا اجد ان هناك انقطاعا، انا لا ارى لزاما علي ان اظل اكتب روايات مثلا، وأظن ان في ما افعله الآن متعة شخصية، وارجو ان تكون فيه فائدة لأناس مهما قلوا على اي حال، وانا اصلا اقول دائما، وارجو ان لا يساء فهمي، اني لم اتعمد ان اكون كاتبا، وعندي احساس اني كتبت او لم اكتب، فزي بعضه، لن تحصل حاجة في الدنيا، وبهذا المعنى فما دمت انا، فان عقلي يقظ، وحتى لو كنت اقرأ فقط، اذا قرأت كتبا جميلة عايشت شعراء كويسين، روائيين كبارا، فهذه فائدة.
هذا نوع من التعبير الابداعي، القراءة ايضا ابداع.
مرة كنت في القاهرة في مهرجان الشعر، سألني كثيرون لماذا لا تكتب؟ قلت: 'ما هو لازم حد يقرأ' يكون هناك هذا باحث، هذا اكاديمي، هذا كذا.. بينما انك تستطيع ان تخلط بين هذه الالوان.
على اي حال، فان ما افعله الان مديح لي، هو اصله في نهاية الامر، من الحوافز على الانتاج لكتاب انكليزي او فرنسي، مثلا، ان هناك مقابلا في النهاية. فهو ينتج اكثر كما لو انه صاحب معمل، يكتب رواية فتأتي له بمردود، نحن ليس لدينا اي مردود، الذين يطالبون اي كازتب او روائي بأن يكتب اكثر، ليسوا مستعدين ان يتحملوا المسؤولية. 'طيب يا اخي، هذا المصنع الذي انت عاوزه ينتج، لازم انت تضمن ان يظل منتجا'. والا فهو حر ان يشتغل كما يشاء.. او لأقل انني اعمل مثل بعض حوانيت القرى، يكون صاحب الحانوت صاحب مزاج، ينتج يوما، ويقفل يومين.. يسافر شهرا وعندما يعود يفتح الحانوت من جديد، انا اشتغل على هذه الطريقة..
في التصنيفات الرائجة في السوق الادبي ان القصة والرواية تدخل في باب الابداع، في حين ان ما يكتبه المرء في باب البحث والنقد، كما تفعلون في الوقت الراهن - يدخل في باب البحث او النقد ولا يدخل في باب الابداع، فهل نجازف ونقول في شبه تأمل لوضعيتكم الحالية، ان نهر الابداع في الطيب صالح قد جف او نضب لصالح حالة او وضعية ادبية اخرى ليست بحسب هذه التصفيات من الابداع في شيء، وهل للعمر تأثيره في مثل هذه الوضعية.
هناك بعض الصحة في القول ان كل مرحلة من العمر تقود الى نوع معين من الانتاج الفني او الادبي. لكن تجد ان هناك ناسا يبرهنون على ان هذه النظرية ليست صحيحة تماما، هناك ناس يبدأون يكتبون في سن متأخرة، وهناك آخرون وقفوا بين الوان مختلفة من التعبير. ثمة الوان مختلفة من التعبير، ولكن كما قلت لك نحن في العالم العربي مغرمون بالتصانيف. نحن نحب ان نصنف، اولا الكائن البشري هذا كشيء متكامل، ولا العقل الانساني كشيء متكامل قادر، او عنده القابلية، على الوان مختلفة من النشاط الفكري والفني.
هؤلاء يحبون ان يقولوا: هذا روائي، هذا ناقد، ناس يكتبون شعرا ولا يقرأون شعرا، او ينتجون رواية ولا يقرأون رواية، هذا امر غريب لا افهمه.. كأنما هذا الشخص يظن انه الصوت الوحيد في الدنيا، وان العالم كله ينتظر صوته. مع ان هناك اصواتا، الاف الاصوات العظيمة في الدنيا، في ما مضى والموجود الان، وانا عبارة عن قطرة في هذا البحر.
انا لا اظن اني انقطعت بالمعنى العميق لمعنى التواصل والتعبير الحقيقي.
لو اردت ان الجأ الى التحليل النفسي في ما يتصل بما اسمعه من حضرتكم، قلت انني المح نوعا من الحزن او الكآبة وكأنكم تشعرون بأن كل شيء عبث ولا جدوى ولا فائدة منه، وباطل الاباطيل كل شيء باطل.
- هذا التحليل يجانب الصواب في مسألتي، انما في السؤال الذي طرحته قلت ان ابا العلاء المعري اذا كان قد زهد في الدنيا تماما، وادار لها ظهره، لماذا لم يصمت تماما؟ في تعريف للزهد، يقولون لك هو الذي اذا غاب لم يفتقد، واذا حضر لم يلتفت اليه.. شخص اصبح غير معروف. لماذا قال المعري الشعر وكتب 'الفصول والغايات'، و'رسالة الغفران'، لانه احس بالرغبة في التواصل. في المعري كانت هناك جذوة الحياة، الرغبة في التواصل هي دليل على ان جذوة الحياة لم تكن تنقصه، وانا لست مكتئبا، ولا انا يائس، لكن انا في حوار وتواصل مع ما سبقني من العقول في الثقافة العربية وفي الثقافة الانسانية. اذا عن لي ان اكتب رواية اكتبها، لكن انا لست من هؤلاء الذين يظنون ان القضية هي قضية حياة او موت، وليس لي هدف، بمعنى انني اريد ان اكون مجدا روائيا.
هناك اشخاص مثل نجيب محفوظ يحترمهم الانسان جدا، هذا الرجل على مدى اربعين او خمسين سنة، كان يجلس يوميا من الساعة كذا الى الساعة كذا ويكتب.
وبلزاك ايضا كان آلة كتابية، وانا بالمناسبة معجب جدا به.
ولكن هذا له اضراره، فهل يخل اولا بتوازن الحياة، يأكل الحياة لأن الفن يلتهم الحياة كما تعلم، والانسياق كلية وراء سراب الفن قد يؤدي الى نتائج خطيرة جدا، كما نعلم من سير الفنانين والشعراء.
انا احاول ان اوازن بين الامور، والله اعلم، قد ارتكب حماقات في ما بقي من العمر