سيف الرحبي: الصحراء التي عشتها واقعياًَ أعيشها رمزياً وشعرياً
حل الشاعر سيف الرحبي ضيفاً على مدينة جدة في السعودية أياماً عدة، وكُرم خلالها من منتدى "إثنينية عبدالمقصود خوجة"، الذي يعد واحد من أشهر المنتديات الثقافية في المملكة، وسبق أن كرم شخصيات ثقافية مهمة، ويسعى حاليا إلى تكريم المفكر محمد أركون.
في حفلة تكريم سيف الرحبي دعي عدد كبير من المثقفين والأدباء، سعوديين وعربا، وقدمت فيها قراءات حول تجربة الشاعر، الذي قرأ بدوره شهادة عن شعره وحياته.
لمناسبة التكريم التقته "الحياة"، فكان هذا الحوار الذي تطرق أيضاً إلى ديوانه الجديد "قطارات بولاق الدكرور" الصادر أخيراً عن دار الجمل.
● كرمك منتدى "إثنينية عبدالمقصود خوجة"، الذي يعد واحداً من أشهر المنتديات الثقافية في السعودية، ماذا عنى لك التكريم، خصوصاً أن تكريم الأدباء والمثقفين ليس تقليداً راسخاً في الثقافة العربية، ويخضع للاجتهادات الفردية، بعكس الحال في الثقافات الأخرى، إذ يأتي التكريم مسألة جوهرية وعنصراً أساسياً فيها؟
- تكريم الأدباء والشعراء في حالتنا العربية مسألة ضرورية، خصوصاً بالنسبة لأسماء كثيرة، غيري أنا طبعاً، أسماء قطعت شوطاً زمنياً وإبداعياً كبيراً، هذا التكريم نوع من التفاتة كريمة واحتفائية مهمة لهم.
أعتقد أن التكريم يعد لدى الشعوب والمؤسسات المتحضرة التي تحترم نفسها، نوعاً من تقليد صميمي وحضاري فيها. في العالم العربي هذه المسألة طبعاً قليلة، لكن هناك بعض المؤسسات الرسمية والأهلية التي تقوم، بين فترة وأخرى، بتكريم أدباء ومثقفين، وهي بوادر ينبغي تعميقها بشكل مقنع أكثر، والتكريم إذا جاء في سياق مقنع يكون ممتازاً.
في ليلة تكريمي من "اثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة" في جدة، التي لم أكن أعرف عنها سوى القليل من خلال الأصدقاء، فوجئت باحتفاء كبير، وبدراسات عن شعري والتقيت بأصدقاء لي. وأتاح لي التكريم الاطلاع على الجو الثقافي في مدينة عريقة مثل جدة.
وكانت الالتفاتة ـ التكريم ـ عميقة وجميلة، سواء بإخراجها أو عمقها المضموني، كالمناقشات والدراسات التي قدمت حول تجربتي، على رغم بعض الملابسات البسيطة، لكن في المجمل كان احتفاء رائعاً.
أيضاً أتاح لي التكريم أن أقارب عن كثب جزءاً أساسياً من المشهد الثقافي السعودي، الذي أنا أتابعه في مجمل المملكة، أيضاً على صعيد حراكه الثقافي وحيويته الإبداعية، الذي هو مشهد أساسي بالنسبة لنا في الجزيرة العربية، وأتصور أنه رافد حيوي على مستوى الثقافة العربية بصورة عامة.
● وفر لك التكريم مناسبة لزيارة الأماكن المقدسة في مكة المكرمة، كشاعر مر بأطوار فكرية مختلفة وعاش تجارب متنوعة، وكمثقف يرى المسألة الدينية من زاوية أخرى، تتجاوز الجانب الطقوسي فيها، كيف تصف لحظة وجودك في حضرة الرحاب المقدسة؟
- لا شك كانت لحظة روحية عميقة، مهما كان الشخص منا بعيداً عن الطقوس الدينية، بالمعنى البراني والمتواتر والشكلي، الذي يصل أحياناً عند البعض إلى الحد الاستعراضي.
في العمق نحن كائنات روحية، معبئين بذاكرة الأسلاف الروحية، والمكان المقدس مكة والرحاب المقدسة، بالنسبة لنا هي صورة روحية أساسية لهذا الذاكرة، أو لهذا السياق ولطقوسه وتجلياته العميقة. وبطبيعة الحال كانت هذه اللحظة مفصلية، لأنه للمرة الأولى أرى هذه الأماكن وهذه الرحاب.
وأتمنى مقاربتها كتابياً على نحو يليق بالمكان وبعظمة المكان الروحية.
وتستدعي هذه اللحظة، ليس فقط ذاكرة الأسلاف واللاوعي الجمعي للمسلمين والعرب والتاريخ البعيد، إنما حتى ذاكرة العائلة التي نحن انفصلنا عنها، في شكل مبكر، وكيف أنها منذ الطفولة ربتنا على تقديس هذا المكان، وكيف كان أفرادها يتوافدون، عبر وسائل صعبة، وفي ظهيرة قائضة وهائجة لصيف الجزيرة العربية، إلى هناك تباعاً وباستمرار وبشكل حاسم روحياً، وفيه كثير من المكابدات، بعكس الآن الذي أصبحت فيه الأمور ميسرة كثيراً.
احتفاء بخرائب الكائن والمكان
● لنتطرق إلى ديوانك الجديد "قطارات بولاق الدكرور"، يلاحظ الاحتفاء بالخراب والغياب، أيضاً هناك تأمل يرتفع بالأشياء والموجودات إلى مرتبة الميتافيزيقي، على رغم أن القارئ كان ينتظر نصاً آخر، ينطوي على مشاهدات ومراقبة للحيوات في هذا الحي القاهري؟
- ربما من خلال قراءة العنوان "قطارات بولاق الدكرور"، يتوقع القارئ احتفاء وكلاماً وشعراً ونثراً حول هذا الحي الشهير في القاهرة، والذي كنت أسكن فيه منذ مطلع العمر، لكن في حقيقة الأمر، المسألة تذهب إلى أبعد من ذلك، فليس ثمة احتفاء سوى بالغياب، احتفاء بخرائب الكائن والمكان، هناك نوع من رؤية رثائية فاجعة لهذا التواري القاسي للوجوه وللألفة الروحية، التي كانت سائدة في الماضي.
ما معناه هناك قراءة وجودية وروحية للمكان في تجلياته القاسية، هناك أيضاً كما أشرت، نوع من ميتافيزيقا أرضية للأماكن والوجوه والغياب. في مجمل نصوص الديوان قاربت حالات الخراب البشري والإنساني، وصلت إلى قراءة تستشرف الخراب أكثر مما تستشرف غيره. لكن هذه الرؤية أو هذا الاستشراف لا يبعدها عن الشرط الجمالي والتأمل الجمالي للأشياء، وربما هو في تضاريس وتضاعيف هذه الرؤية ومرتكز أساسي لها.
بمعنى آخر ليست هناك ميلودراما أو فاجعية برانية بقدر ما هناك تأمل جمالي للعالم، لكن في تبدلاته وفي حالاته المختلفة وفي تصدعاته، لكن من زوايا ومشاهد مختلفة، لكي نصل إلى صيغة معينة إلى النص أو القصيدة. ليس هناك هوية معلبة سلفاً، حتى على الصعيد الخرابي والقيامي للعالم، بقدر ما هناك نوع من قراءات متواترة لمشاهد وحالات وأماكن وشخوص مختلفة في هذا العالم الذي نعيشه.
● لكنك تظل تحمل الثيمة نفسها مع كل ديوان يصدر، موضوعه الغياب والخراب، وانقراض السلالة، وإن كان لافتاً أنك مع كل تجربة جديدة تعاين هذه المواضيع من زاوية مختلفة، من أفق شعري مغاير، ما يعني حضوراً جديداً لهذه المشاغل؟
- أحاول. هناك ثيمات مشتركة بين دواوين لي وتجارب شعرية ونثرية مختلفة، لكن أحاول مقارباتها وقراءتها من زوايا ومن مشاهد مختلفة. أحاول تطويرها وإنضاج الأدوات المعرفية والجمالية للمقاربة. وفي النهاية ليست هناك اكتشافات جديدة على صعيد الثيمة، على الصعيد المواضيع، على صعيد الأداة، لكن هناك قراءة متجددة ربما، ودفع هذه القراءة الشعرية للعالم إلى مشارف تحاول أن تكون جديدة، وتحاول أن تكون مكررة لكن ليس ذلك التكرار النمطي، وإنما نوع من التكرار الذي يحاول أن يجدد ويقترح دائماً مقتربات جديدة للنص.
● ارتبطت بالصحراء أكثر من أي شاعر آخر في الجزيرة العربية، ما الذي جعل للصحراء كل هذه المكانة وكل هذا الحضور المؤثر في تجربتك؟
- الصحراء هي قدر ومصير حتمي بالنسبة إلى الكائن الذي أتمثله، وبالنسبة إلى النص الشعري هناك ربما نوع من قلق مستمر تجاه النص وتجاه العالم والحياة. لكن بالنسبة إلى الصحراء التي عشتها أنا واقعياً وأعيشها رمزياً وشعرياً، هذه الثيمة تشكل عنصراً صميمياً في كياني الجسدي والروحي والشعري، فهذا العنصر دائماً يخترق معظم التجارب، ويحاول أن يقارب ويستقرئ المكان والصحراء والمحيط الجبلي والبحري لهذه الصحراء، ويحاول أن يقرأها ويستنطقها وجودياً وروحياً، ويدفع بها إلى مشارف جديدة، وإلى مقترح ربما يكون جديداً وغير نمطي.
هناك ربما استنطاق مكاني، روحي ووجودي لهذه الصحراء، لهذا المحيط الذي نشأنا وتربينا فيه على مشارف الربع الخالي من الجزيرة العربية. وأحياناً هذه المقاربة الشبه الفطرية وغير المقننة معرفياً بالمعنى الفلسفي، ربما تثير الشعر أكثر من العدة المعرفية المنجزة سلفاً. القراءة الوجودية والروحية للصحراء، ربما تعطي مردودها الشعري أفضل من العدة المعرفية لقراءة نظرية مختلفة، التي لن تعطي تلك الحرارة العميقة للنص الشعري وللتجربة الشعرية. وبطبيعة الحال ليست هناك نظرة بربرية، فحتى هذه القراءة وتلك النظرة للصحراء معبأة بإرث معرفي.
● في الديوان نفسه احتفاء بأسماء شعرية، مثل صبحي حديدي، علي الدميني، سعدية مفرح، أروح صالح، بعضهم رحل عن عالمنا وبعضهم الآخر لا يزال يعيش ويواصل الكتابة... ما اللحظة التي أمْلت عليك مقاربة هؤلاء شعرياً؟
- كل لحظة لديها املاءاتها الخاصة تجاه وجوه معينة، وجوه تربطنا بهم صداقة وأخوة الشعر. في لحظة الكتابة أستحضر هذا الوجه الغائب. فمثلاً الشاعر السعودي علي الدميني استحضرته عبر تجربته الخاصة، وكنت أقرأ كتابه وروايته اللذين أهدتني إياهما زوجته الكاتبة فوزية العيوني، في اللحظة نفسها ربما انبثقت القصيدة في ذلك الليل القاهري البعيد.
وبالنسبة إلى أروى صالح وهي مثقفة مصرية ماتت قريباً من المكان، الذي أعيش فيه في (الدقي)، ماتت منتحرة، فكان ذلك المقطع الشعري في سياق "قطارات بولاق الدكرور". كانت القصيدة تستحضر اللحظة المأسوية لغياب تلك المرأة المثقفة، بهذا الشكل الانتحاري الممزق. كل ذلك يأتي في سياق الاحتفاء بالغياب بوجوه غائبة صديقة وحميمة، سواء قضت أم ما زالت تكتب وتبدع، ليست هناك فروق جوهرية بين الغائب الميت والغائب الحي، على صعيد المقاربة الشعرية، وعلى صعيد الاستحضار الروحي والشعري لوجه الصديق الغائب.
● في قصيدة "مشاهد بحرية" ثمة شاعر يترنح بحثاً عن درة الخيال اليتيمة... هل يهمك أن تعثر على هذه الدرة؟
- طبعاً لا، لأن هذه الدرة اليتيمة ربما توغل أكثر في المسافة، في الغياب، لكن بالنسبة إليّ مجرد البحث هو حال جمالية رائعة. البحث في حد ذاته مثل الطريق، هي الغاية في حد ذاتها، ليس هناك من غاية أخرى نهائية. والقلق في خضم هذا البحث هو الهدف بالنسبة إليّ.
"نزوى" والثقافة الطليعية
● أكثر من عشر سنوات مرت اليوم على انطلاقة مجلة "نزوى"... هل تعتقد بأنها حققت بعض الأهداف التي تأسست من أجلها؟
- إلى حد ما يمكن أن أزعم ذلك. وأزعم أيضاً أنها تنطلق في السياق الطليعي للثقافة العربية، وحاولنا أن نمسك باللحظة التجديدية والحداثية العمانية تحديداً، وهي لحظة كانت مغيبة عن المنابر، كما حاولنا إلقاء الضوء على الكثير من الإنجازات الكلاسيكية في الثقافة العمانية. وأتصور أن هذه الأمور تبلورت في سياق واضح نوعاً ما، أي أن "نزوى" مجلة عربية من خلال تعدد الأصوات والمشارب والاتجاهات الثقافية والفكرية العربية، وتواصل مشوارها في مكابدة، وهو طريق ليس بالسهل، وبخاصة في بيئات غير مؤسسة لثقافة حديثة من هذا النوع، فتكون المهمة صعبة أكثر من بلدان أخرى تأسست فيها منابر، وحرثت الأرض السلفية باتجاه تطلعات جديدة ومتراكمة، وفيها نوع من إرث متراكم على الصعيد التنويري والتحديثي.
هنا المسألة مزدوجة، على صعيد الصعوبة واختراق المألوف والسائد. وهنا كوكبة من المثقفين والكتاب العمانيين، نتعاطى معاً للوصول إلى نقطة تتقاطع وتتساوق مع الثقافة العربية، على صعيد تجديدها وعلى صعيد طموحها التحديثي والإبداعي.
● حمّلت في مقال لك الأكاديميين العرب المقيمين في مسقط، مسؤولية تدهور الثقافة في عمان، وأبديت نبرة تشاؤمية حيال نهوضأي فعل ثقافي طليعي في بلدك؟
- ما لمسته أن كثيراً من الأخوان الذين جاءوا من بلدان عربية، بخاصة من بعض الجامعات المصرية، لم يسهموا إلا بعكس ما كنا طرحناه على صعيد مجلة "نزوى" وغيرها. كنا نرغب في أن يسهموا بمقترحات إبداعية في تربة سلفية منطوية جداً على ذاتها. فكان إسهامهم سلبي جداً، وكان كثيراً منهم ممالئين للثقافة النمطية والسائدة التي تجاوزها الزمن، ولم تعد مؤثرة إطلاقاً، وليس فيها أي نوع من الحيوية. إذ كانوا يشجعون الظواهر التي أعتبرها متخلفة ونكوصية وتعيش زمناً غير زمنها، ويحاربوا محاولات التحديث والتجديد في الثقافة العمانية، وهو ما أثار نقاشاً وسجالاً حول هؤلاء في المشهد الثقافي العماني. لكن الحال التجديدية والتنويرية، إذا صحت هذه الكلمة الأخيرة، استطاعت على رغم كل ذلك أن تحفر مجراها بصورة أفضل، وبصورة عبّرت عن جهد إبداعي وكفاحي في هذا السياق.
● أخيراً... كيف تصف علاقتك بالشعراء والكتاب العمانيين، بخاصة الذين ذاع صيتهم في الوطن العربي؟ هل من مشترك؟
- كثير منهم أصدقائي، بين شعراء وقاصين وروائيين. لكن دعني أتطرق هنا إلى ظاهرة سردية في عمان ينبغي الإشارة إليها، إذ توجد مجموعة من كتاب القصة والرواية، يحاولون طرح تجارب مهمة جداً على الصعيدين الخليجي والعربي، هذا مسألة لا بد من الانتباه إليها. أيضاً هناك البحث الأكاديمي الذي يبشر بطرح جريء وعميق من أساتذة أدباء، وفي الوقت نفسه أكاديميين، مثل ما هو موجود في السعودية واليمن. هؤلاء يخوضون غمار تجربة تأسيسية، وفي الوقت عينه تعتبر متقدمة جداً على صعيد الثقافة العمانية والعربية. ومجمل هؤلاء يمثلون كوكبة ثقافية عمانية في مجالات مختلفة. ختاماً أتصور أن هناك صِلات شخصية وثقافية وفكرية متناغمة إلى حد كبير.
جدة - أحمد زين الحياة - 27/03/07//