*كيف يمكن قراءة قصيدة النثر قراءة إيقاعية في غياب التفعيلة والقافية؟.
*دراسة القصيدة المقترحة دراسة إيقاعية من خلال المحاور التالية:
*القراءة الصوتية للقصيدة ( دراسة صوتية تركز على مفهوم الكم من خلال عمليات إحصائية في علاقته بالدلالة العامة للقصيدة).
******************
كيف يمكن قراءة قصيدة النثر إيقاعيا في غياب التفعيلة والقافية؟
لم يكن النظام العرضي يشكل لب الإيقاع ومركزه داخل الشعر العربي في أي فترة من فتراته وداخل أي شكل من أشكاله لعدة أسباب لعل من أهمها :
*يتشكل الإيقاع داخل القصيدة –بشكل عام- انطلاقا من تظافر عدد من المكونات، سواء ما ارتبط بالجانب الخارجي / الهيكل الهندسي العروضي، أو ما ارتبط بالجانب الداخلي والمتمثل أساسا في لعبة الموازانات الصوتية التي تشكل اللغة مادتها الخام..
*إن اعتبار النظام العروضي أساس الإيقاع يجعلنا ندخل بعض المنظومات التعليمية داخل الشعر (ألفية ابن مالك مثلا ...) في حين أنها جاءت لهدف تربوي/ تعليمي بعيد عن الشعر بدليل خلوها من أي حس إبداعي، إضافة إلى شحوب المخيال الذي نعتبره أساس كل إبداع حقيقي.
*استنادا إلى ما سبق نعتقد بأنه بالإمكان دراسة قصيدة النثر إيقاعيا انطلاقا من لعبة الموازنات الصوتية والتي تسهم بقسط وافر في خلق الإيقاع –بشكل خاص من خلال التكرار-، ونتوسل بمفهوم الظاهرة –كما ورد في بعض التنظيرات الغربية والفرنسية بشكل خاص عند جون كوهن – والمقصود بالظاهرة هنا الملمح التعبيري اللافت والذي يؤشر على الهوس بالضرورة ،وبالتالي فإننا سنعمد إلى دراسة هذا العمل انطلاقا من هذا التصور لأننا في نهاية المطاف لا يمكن أن نقف عند العوارض المعزولة والتي لا تشكل أساسا في بنينة النص إيقاعيا ...
*القراءة الصوتية للقصيدة ( دراسة صوتية تركز على مفهوم الكم من خلال عمليات إحصائية في علاقته بالدلالة العامة للقصيدة).
ننطلق في قراءة القصيدة قراءة صوتية من خلال التركيز على أحد التقسيمات التي نراها مركزية في أي دراسة صوتية للنص الشعرية (الأصوات المجهورة /الأصوات المهموسة) ،نظرا لما تمنحه من إمكانيات مهمة للربط بين "الظاهرة الصوتية" وبين المولدات الدلالية التي تنشأ انطلاقا من استعمالها، لأننا لا نتصور –في نهاية المطاف- أي استعمال للكلمة أو للجملة في النص الشعري دون أن تكون له علاقة معينة بالدلالة العامة للنص نظرا للترابط الوثيق بين الجانب اللغوي وما ينتج عنه من دلالات تمتد داخل النص من خلال ترابط جدلي بحيث يؤشر أحدهما على الآخر ويدل عليه،لأن النص يبقى –دائما- عبارة عن شبكة متكاملة من المكونات المرتبطة بالجانب اللغوي والتي تعمل بشكل تكاملي للنهوض بالدلالة العامة له ...
ومن خلال استقصاء بسيط للقصيدة تمكنا من الوقوف على هيمنة صوتين معينين دون غيرهما من الأصوات وهما : الراء والياء وبالتالي نرى ضرورة تحديد هذين الصوتين تحديدا دقيقا في ارتباطه بالدلالة العامة للنص، من خلال منهج إحصائي/ كمي يعمد إلى ربط المعطيات التي تم التوصل إليها بالسياق الدلالي العام للنص .
الصوت نسبة تكراره تصنيفه
الياء 25 مرة مهموس
الراء 17 مرة مجهور
وإمعانا في المزيد من التدقيق نستعين بتصنيف ابن جني والذي يعتبر الياء صوت يخرج من الجوف وهي –بالنسبة إليه- هاوية في الهواء ، أما الراء فهي: تخرج من ذلق اللسان ، وهو تحديد طرفي اللسان أو طرف غار الفم // إننا نطرح هذا التصنيف –فقط- لنشير إلى الاختلافات الجوهرية بين الصوتين، لان ما سنركز عليه هو خاصيتي الجهر والهمس.
إن الجهر يشير إلى مواقف القوة، ويستعمل – عادة – في مواضع معينة تتميز –بشكل عام – بالقدرة والقوة وغيرها مما يؤشر على حالات تكون فيها الذات الشاعرة –غالبا- غير معنية –بشكل وجداني- بالموقف .
أما الهمس فيستعمل-عادة- في مواقف تتسم بالضعف وعدم القدرة، وعدم تلائم الذات المبدعة مع المعطيات المحيطة ...
وهو الأمر الذي يدفعنا إلى طرح عدد من الأسئلة من قبيل :كيف يمكن أن تتم الاستعانة بصوتين متباينين من حيث خصائصهما الفيزيائية ؟ وهل يمكن –حقا- أن نزاوج بين الصوتية –خصوصا وأننا أمام نص قصير (كميا)؟ ثم كيف يمكن أن نربط بين التصريح الواضح الذي جاء في عنوان النص (وكأنه تقرير لحقيقة محددة سلفا) "لاشيء يحدث الآن" وبين الاستعمالات الصوتية التي ينبني وفقها النص ككل (مختزلة في التصنيف الوارد أعلاه ) ؟ ولم يغيب صوت مهيمن وهو صوت/ حرف الراء داخل العنوان ( الذي يشكل لازمة تتكرر داخل النص ) ؟؟
سوف نحاول أن نجيب عن بعض هذه الأسئلة من خلال جملة من الملاحظات المختزلة التالية:
* يشير الاستعمال الصوتي للحرفين المهيمنين داخل النص إلى التضارب الواضح داخل الذات الشاعرة في علاقاتها بالمعطيات الواقعية المحيطة، بحيث أن العلاقة بين الطرفين عبارة عن علاقة تصادم وتنافر واضحتين، بل إننا نعتقد بأن هناك ما يشبه الانفصام بين الجانبين خصوصا وان المبدع يشير في العنوان –بشكل محددة – الى السكونية التي تسم الواقع (خصوصا من الناحية الزمنية ) ويتضح ذلك –بجلاء- من خلال الجملة التي تشد بنيان النص والمتمثلة في عنوانه، وهي عبارة عن بيان واضح يحدد ملامح ومعطيات الواقع المحيط (لاشيء يحدث الآن / في هذا الزمن / في هذا اليوم / في هذه اللحظة )، وهو ما يعضده مرض الفرس-رمز القوة والصمود ومفتاح النصر (كل نصر)- . نحن إذن أمام ثنائية تلازم وتماثل ما جاء في عنوان النص وهذه الثنائية تتشكل من قطبين أساسيين وهما : الفرس المريض/العشب الذي لا يصعد، بينهما ذات مبدعة تقر بان المشهد قد تم إقفاله وانتهى على هذه الصورة، وهو ما تم إسناده من خلال التكرار الملفت لأبرز صوتين في النص (الياء والراء) في هذا المقطع بشكل خاص:
" لا شيء يحدث الآن...
الفرس المريض يمر فوق الحواجز
رصاصة في الرأس
و نقفل المشهد
الفرس مريض و العشب لا يصعد
لا شيء يحدث الآن...."
الذات المبدعة ،إذن، تقرر منذ انطلاق النص بالعلاقة الممكنة التي تربطها بواقع مأزوم / واقع يتم التخلي فيه عن الفرس (رمز لكل الخصال النبيلة ) ، ويتضح الأمر أكثر حين نربط بين التكرار الصوتي الملفت هنا للصوتين- قيد الدراسة- بالدلالة العامة بحيث يتم التبئير على صوت الياء –بشكل يكاد أن يكون تاما (تتكرر الياء هنا 9 مرات )/ وهو دليل كاف على العلاقة الرابطة بين الذات المبدعة والواقع العام في سماته الأكثر قتامة، وما يؤكد استنتاجاتنا أكثر هو غياب حرف/ صوت الياء في الجملة التالية (وهي أهم جملة في هذا المقطع في رأينا لأنها تقوم ببناء دلالة المقطع ككل (ونقفل المشهد) إنها جملة محورية نظرا لأنها تنبني على ما يمكن أن نوسمه بالاستنتاج العام من خلال تحليل معطيات الواقع القائمة على مرض الفرس، مما يؤجل بإقفال المشهد مادام الفرس/المبدع مريض/ مأزوم وغير قادر على الفعل في الواقع بشكل ايجابي .
*لكننا نفاجئ بـ" غير أني أكسر أوثان المعنى
لأسمع بكاء الغراب على لونه
الفرس مريض
لكنه يقفز فوق هذا المدى الأسود...."
يتم الانتقال هنا من حالة معينة تتسم بالركود والمرض وعدم القدرة على الفعل في واقع موبوء، الى حالة أخرى مختلفة تماما حيث إصرار على كسر كل أوثان الجمود، ومقاومة للحالة الأولى (حالة المرض واليأس) ودخول فيما يشبه المقاومة والتحدي ضد كل المعطيات السابقة (بالرغم من أن "الفرس لازال مريضا") ... ويتم ذلك من خلال الاختفاء الواضح لصوت/ حرف الياء بحيث تتكرر في هذا المقطع 4 مرات وبالمقابل يتم التركيز على أصوات أخرى غير مهيمنة داخل النص كالنون واللام – وهما صوتان مجهوران ومختلفان تماما عن صوت الياء من حيث البنية الفيزيائية – وهو ما يناسب الاختلاف (حد التضارب) في المعنى العام الذي وقفنا عليه في المقطع الأول – وهو الأمر الذي يؤكد بأننا أمام مبدع متمرس بشكل جيد في معانقة اللغة وفي ممارسة لعبة المراودة التي لا يمكن اكتسابها إلا من خلال فتح أكثر من جبهة على اللغة، وذلك بالذهاب بعيدا في اقتناص نصوص أخرى خارج اللغة نفسها - .
*"ليس في الاستعارة ما يؤذي الغزال
القمر غرفة نومنا الأخيرة
و ليس في البصيرة ما يعطل اندفاع الجمال
يقول الفرس اقتلوني فوق ثلة
لا تطل على أي شيء
........................................أقتلوني
لأدندن بالصهيل...."
ويبلغ التكامل بين الصوت والدلالة مداه في المقطع الأخير حيث يتم التركيز بشكل ملفت على الهمس من خلال التكرار البارز لصوت الياء، وهو تكرار يتماشى مع الدلالة العامة لهذا المقطع –وللنص ككل- والتي تقوم على محاولة تجاوز عدد من معطيات الواقع الذي يرزح تحت نيل عدد من العوائق التي تكبح جماح كل رغبة في التجاوز /التي تكبح رغبة الفرس المصر على الصهيل بالرغم من فعل الموت الذي ينوء بكلكله على النص / على الوقع، وهو قتل الرمز المتمثل هنا في الفرس، لكن وبالرغم من هذا القتل يظل الفرس جامحا "يدندن بالصهيل" حتى وهو ميت ... وبالتالي فان هذا المقطع الأخير يختزل – في تقديرنا- دلالة النص ككل والقائمة على ثنائية أساسية تتمثل في:
- تشريح معطيات الواقع المريض / المأزوم والفارغ من كل محتوى ومعنى حقيقيين..
-الرغبة والإصرار على تجاوز هذه المعطيات من خلال إصرار الفرس على المقاومة والتشبث بالصهيل ....
ولي عودة الى باقي المحاور ...
انتظر تعليقاتكم وردودكم حول ما جاء في هذا الجزء من الدراسة .
مصطفى بلعوني