سميح القاسم واحداً من أبرز شعراء فلسطين و الوطن العربي بل لعله واحد
من أهم شعراء العالم، شاعر مجبول على التحدي و المقاومة المتواصلة للاحتلال بكل
الأشكال الممكنة و غير الممكنة ، هو يقاوم بنصه و يراهن على الشعر أن يكون سلاحا ،
أن يتحول إلى طاقة مادية تصنع و تغيّر و تشكل العقل العربي من جديد ، وهو أيضا
يدعو إلى تفجير نوويّ في العقل العربي ، في الروح العربية هذا ما يريده الشاعر و
هذا ما يؤمن بحدوثه يوما ما . لم يهرب من فلسطين و لم يشخ، مازال الشاعر شابا،
روحا و قصيدا…
التقيناه و سعينا ليكون حوارنا معه متنوعا، الحديث إليه كان ممتعا و مريحا فالرجـل
غير متكلف و يجعلك تسترسل فـي الحديث إليه و التمتع بمجالسـته و الاستماع لكل ما
يقول وما هذا الحوار إلا ّجزء من لقاء جاوز الساعة و نصف الساعة، تحدث فيه الشاعر
الكبير عن كل شيء.
كيف تتراءى لك اللحظة العربية الراهنة؟
اللحظة الراهنة ليست لحظة عربية، فلنكن صادقين مع أنفسنا و واضحين ولنمارس الجرأة
في مواجهة الذات، نحن خارج هذا الزمن و أخشى أن نصبح خارج الجغرافيا أيضا لأنّ
الممارسة العربية السائدة و الرسمية طبعا و التي تنعكس بقوة و جبروت على الإنسان
العربي هي ممارسة غياب كامل في السياسة و الفكر و الثقافة و الاقتصاد و المجتمع،
غياب عن الفعل، غياب عن الوعي، و اعذروني حين أصف الحالة العربية الراهنة بأنها
غيبوبة، لكن يبقى ما تعرفونه عنّي من سمة برج الثور من العناد و التحدي و التشبّث،
و في قصيدتي أجس نبض هذه الأمة فأكتشف أنها مازالت على قيد الحياة و كل ما يبقى هو
أن نعيد صياغة فكرنا و سلوكنا في محاولة ضرورية للعودة إلى الحياة و الفعل و
العودة إلى مكان ما من موقع تحت الشمس.
في هذا الخضمّ ، كيف ترى دور الشعر اليوم ؟
الشعر ليس مكلفا بدور ، الشعر هو الدور و إذا كان لدينا إبداع جيد فهذا يقيم
الدليل على أننا مازلنا على قيد الحياة و لكن أريد أن أذهب بسؤالك إلى مثابة أبعد
بالاعتراض على من يزعمون بأن الشعر هو جنرال .
قصيدتي ليست جنرالا ، لا تملك الصواريخ و الطائرات و الدبابات لتغير موازين القوى
ميدانيا ، قصيدتي تحاول ممّا تفعله بي أن تعيد للإنسان في المطلق و الإنسان العربي
أساسا إحساسه بالكرامة و بالحق في الحياة النبيلة و الراقية .
هي تمتلك تلك السلطة الروحية ربما؟
نعم و السلطة أو الطاقة الروحية تستطيع أن تتحول إلى طاقة مادية إذا قيّضت لها
الأطر ، الأطر المقصودة هنا هي تشكيل منظّّم يقوم على نظرية ، على فكرة ، على موقف
، إذا غاب الموقف العربي بهذا الاتجاه فستظلّ طاقة القصيدة أشبه بالكهرباء الساكنة
، لذلك يتداخل الشعر بالسياسي و أنا أمارس ذلك باعتزاز .
إذن أنت ضد القائلين بالقطيعة بين الثقافي و السياسي ؟
أنا أسفّه النظرية الضحلة و السخيفة التي تقول بالقطيعة بين الثقافي و السياسي ،
هي نظرية ليست سخيفة فحسب بل هي خطيرة لأنها نظرية سياسية بالأساس وراءها قوة
سياسية تريد الفصل بين السياسي و الثقافي بمعنى الفصل بين المبدع و الشعب بمعنى
إبقاء الشعب بلا ذاكرة ، بلا وجدان ، إذن هو موقف سياسي ، أنا أرفض و أسفّه من
ينادون به و يرددونه كالببغاوات لكن لي دين و لهم دين ، لهم قناعاتهم وهم أحرار في
ذلك ، أوبخهم دائما لكنني أدعو لهم بالشفاء العاجل .
نعلم أنّ لك مفهوما خاصا للحداثة الشعرية ؟
اسمح لي أن أطلب منك أن تسيء الظن و تحسن الفهم ، قصيدتي تجسد حداثة الشعر العربي
قصيدتي هي التي تجسد الحداثة الحقيقية في الشعر العربي و ما عدا ذلك فهو تجريب و
اجتهاد مبارك و جيد و جميل لكن لا أسمح باستغلال مستوى العالم الثالث الثقافي
لترويج تفاهات و أباطيل تطلب مني مستنسخا ، لست مستنسخا و لا أريد أن أكون مستنسخا
، لا من إليوت و لا من جون جاك بيرس و لا من مايا كوفسكي و لا من أي كان ،
الاستنساخ مسألة علمية قد تفيد في استبدال قلب معطوب مثلا .. لكن في الثقافة و في
الفن و في الشعر لا و قد قلتها من خمسة عقود ، موقفي و رؤياي واضحان تماما و
اغفروا لي تواضعي بتنبيهكم إلى أن فهمي للحداثة يختلف عما هو سائد و رائج من وعي
عالم ثالثي شعراء عالم ثالثيون يستغلون مستوى ثقافي عالم ثالثي لتمرير نظريات عالم
ثالثية ، أنا لست من العالم الثالث ، أنا من العالم الشعري العربي الأول و هو
العالم الأول ، لا أريد أن أشبه أحدا و لا أريد لأحد أن يشبهني ، أنا مع الهوية
الثقافية الواحدة و الواضحة و لكن أنا ضد مشاعر القدامة الشعرية و مشاعر التدني .
يرى البعض أن قصيدة النثر سحبت البساط من تحت أقدام الشعر الكلاسيكي؟
أنا مع الحداثة و مع الاستحداث أيضا ، لأنه يستعد على الحداثة ، الاستحداث هو أن
يستفيد من إبداع الغرب و الشرق و ما بينهما لا بأس ، أنا مع هذا لأن الحضارة
العربية في جوهرها و في صلبها حضارة تساؤل و أخد و عطاء ، أنا مع الانفتاح على
العالم كله و بالنسبة للهاجس الفني فأنا مع المغامرة الفنية بدون شك ليس لدي إحساس
بالصراع بين القصيدة الكلاسيكية و قصيدة التفعيلة و قصيدة النثر و حتى قصيدة
الكومبيوتر ، ليس لديّ إشكال في هذا الموضوع لكني مع احترام الحقائق الإدعاء بان
قصيدة النثر قد سحبت البساط فيه تجاوز للحقيقة أولا و فيه وقاحة و تطاول ثانيا
بالمفهوم الأخلاقي البسيط كأن أقول مثلا أنني سحبت البساط من تحت أقدام المتنبي ،
يمكن أقول تجاوزت المتنبي هذا من حقي لكن لا يجوز القول بسحب البساط من تحت قدمي
المتنبي أو شوقي أو الشابيّ .هناك تكامل من حقي و من واجبي و من طبيعة الإنسان أن
نتكامل و أن نتناقض لا بأس لكن التطاول مرفوض . اذهب إلى أمسيات الشعر على امتداد
الوطن العربي و امتداد العالم كله و ابحث هناك عن الإجابة عن أيّ بساط يتكلمون أنا
أتجول في الوطن العربي ، صحيح أني أعيش في قفص اسمه وطني لكن من حين لآخر أفلت من
بين قضبان هذا الوطن و أتجول فعن أي بساط يتحدثون أشعر أحيانا بحرج حين أستقبل كما
يستقبل فنانو الحب في أوروبا و في أمريكا أشعر بحرج و الله . هذه أوهام هم يتمنون
لكن هذا لم يحصل ، حتى الآن إذا حصل سأجلس في الصف الأول في القاعة لأستمع إليهم
جيدا و أصفق لهم .
في رأيكم إلى أي مدى استطاعت قصيدة النثر العربية أن تنتزع لها مكانا في منظومة
الحس العربي المجبول أساسا على الإيقاع ؟
ليس الشعر العربي فقط هو المجبول على الإيقاع، فقط المقاييس أقل تطورا عندنا،
التفاعيل العربية هي الأرقى في كل العالم و هي ثورة إيقاعية و موسيقية هائلة ، أنا
أعتز بها ، القول إنها قيود من قبيل الجهل إذا ذوبت هذه الإيقاعات ، إذا أصبحت جزءا
من كيانك الداخلي فهي تتحول إلى أجنحة حرية لا إلى قيود ، الأوزان ليست قيودا أنا
استغرب هذا الكلام ، ما لا أعرفه يتحول إلى قيد الكيمياء بالنسبة لي مثلا قيد
لأنني لا أعرفها الفيزياء قيد لكن بحور الشعر العربي هي أجنحة حرية لابد من ابتكار
أجنحة أخرى بقصيدة التفعيلة ، بقصيدة النثر ، بأي شكل من الأشكال ربما تنسأ قصيدة
الكومبيوتر مثلا ، تعلمون أنني أوجدت الشكل المسمّى السربية ، ما يسمّى بالمطولات
الشعرية القائمة على التداعيات أنا أوجدت هذا الشكل منذ العام 1965 و تبناه شعراء
عرب كثيرون دون أن يقول هذا سربي أو هذا الشكل الذي وضعه سميح القاسم ، لا يعنيني
على الإطلاق ، ما يعنيني أن هذا الشكل أصبح رائجا في الشعر العربي و أخذا موضعا
قويّا في الشعر العربي الحديث ، توصلت مثلا إلى شكل الكولاج الشعري من عشرين عاما
، نشرت أول كولاج شعري ثمّ تابعت و اكتشفت أن شعراء كثيرين في الوطن العربي ذهبوا
إلى الكولاج دون أن يتحدثوا عن المصدر لا بأس ، أنا لا أبحث عن حق التأليف ، حق
التأليف لا يعنيني هذا الموضوع ، الذي يعنيني فعلا هو أن شكل السربية الذي بدأته
من أربعين عاما و أكثر أصبح مألوفا في الشعر العربي و شكل الكولاج الذي أوجدته من عشرين
عاما أيضا أصبح هو الآخر شكلا مألوفا .
فلتكن قصيدة النثر، ما من شكل يحتل مكان شكل آخر ، يجاوره ربما ، قصيدة التفعيلة
تجاور القصيدة الكلاسيكية ، لكن لا تلغيها تجاورها و تأخذ منها و تعطيها فلنصفح
للغرور الضحل الذي يهيمن على الساحة الشعرية و الثقافية في الوطن العربي لنصفح
لأشقائنا العالم ثالثيون الذين ينطلقون من الإقرار بأنهم عالم ثالثيون و يشعرون
بالقزامة و بالتدنّي و بالضآلة أمام نظريات و تجارب وافدة من الغرب أنا أعترف أنني
لا أشعر بالتعالي على الغرب ليست لديّ مشاعر عملقة تجاه الغرب لكن لا أرى في الغرب
قامة أطول من قامتي ، أرى دبابة أكبر من دبابتي و طائرة أكبر من طائرتي، لكن في
الشعر لا أرى في الغرب و لا في الشرق و لا في الجنوب قامة أطول من قامتي.
كيف تنظر لمقولات السلام اليوم؟
قد نكون الأمّة الوحيدة التي تعتبر السلام أحد أسماء الله الحسنى ، قد يكون أيضا
شيء كهذا في المسيحية أو اليهودية أو البوذية لكن أنا أتكلم بما أعرف فقط ، السلام
هو أحد أسماء الله الحسنى و نحن حضارة سلام و أخوة بين الشعوب و تفاعل نحن أمة لا
فضل لعربي أو أعجمي إلا بالتقوى و لا أبيض على أسود و نحن أمة الناس سواسية مثل
أسنان المشط و نحن أمة و جعلناكم شعوب و قبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم
و نحن أمة و لو شاء ربك لجعل الناس جميعا أمة واحدة .. هؤلاء نحن لذلك من الطبيعي
أن نكون أمة سلام لكن هناك من يحرف و يزوّر و يطرح الإستسلام بصيغة السلام و هذا
ما لن يكون ، لابد أن أجعل هذه الأمة العربية أمة برج الثور لابد أن أجعلها رغم
أنفها و هذا ليس حلما بل حقيقة ، اذهب إلى أمسياتي الشعرية في الأقطار الغربية و
ستكتشف أنها حقيقة .
لن أسمح أن يتحول الاستسلام إلى صيغة سلام ليست لديّ بطارية صواريخ و لا طائرات و
لا دبابات لكن لديّ سلاح التدمير الشامل السري الذي لن أكشفه لأحد و هو يخندق في
عمق القصيدة عميقا لا تطاله الطائرات و لا الصواريخ ، بهذا السلاح السري سنقاوم
مسح الذاكرة و إلغاء الهوية و تقزيم الروح و احتلال الوطن ، هو دمار شامل للشر و
إعمار كامل للخير .
و لكننا بحاجة لكثير من الوعي إزاء هذا التحدي ؟
نحن بحاجة لأطنان من الوعي و لذلك كانت دعوتي الأخيرة إلى تفجير نووي عربي ليس على
الطريقة الإسرائيلية أو الروسية ، بل هو تفجير نوويّ في العقل العربي ، في الروح
العربية ، هذا ما نريده و هذا ما سيحدث ، و أنا لا ابني على أوهام ، من بنى
القاهرة و بغداد و القيروان و قرطبة ؟ أنا لا أتخيل ، هذا واقع ملموس ، لنكن مثل
أجدادنا على الأقل !!!